بقلم: أنس الرشيد: اللحية عالقة في المرآة

إذا وقفنا أمام المرآة فإن يميننا في الصورة المنعكسة تصير يسارًا، وإذا كنا أمام مرآةٍ تُغطي الجدار كله ومشينا نحو اليمين فإنَّ صورتنا في المِرآة تبدو كأنَّها تتحرك نحو اليسار، أي أنَّ الاتجاه الأفقي ينعكس. وإلى مطلع الخمسينيات الميلادية في القرن الماضي كان يُظنُّ أنَّ هذا الأمر لا يُغيّر شيئًا في القوانين، إنَّما هو مجرد انعكاس صورة، لكن في النصف الثاني من الخمسينيات لُوحِظَ -أثناء تَحوّل النيوترون إلى بروتون- أنَّ الإلكترونات الناتجة من التحلّل تَصدر يساريّة في أغلبِ أحوالها (دوران الجسيم يُعاكس اتجاه حركته)، ويندر أن ترى يمينيًا، والسؤال هل يعني لو عكسنا التجربةَ في مرآة فسنرى أنَّ القوانين التناظرية لا تعمل كما كنَّا نعرفها؛ لأنَّ الطبيعةَ لا تُنتج الإلكترونات اليمينية كما تُنتج اليسارية؟ بمعنى أنَّ الإلكترونَ اليساري لن يُصبح يمينيًا حين نراه في المرآة، لأنَّ الطبيعةَ ترفض هذا التماثل؟ هذا ما يقوله علماء تلك التجربة: حتى بعد الانعكاس، ظلَّ الإلكترون يساريًا وكأنَّ المرآةَ فقدت قدرتها على خداعه. هذا الكسر البسيط في التناظر -الانحياز الطفيف- هو الذي جعل المادة تفوز على المادة المضادة لها بعد الانفجار الكبير، ومنه نشأ الكون، وربما هو الذي يجعل المؤمن بوجود مضادٍ دائم هو المنتصر، فانظر في أحوال صراعات اليسار المتيقظ الذي يخلق يمينه الدائم، وبين اليسار الأحمق الذي ما زال يؤمن بإلغاء التضاد يومًا ما.
أتذكّر هذه التجربة وأنا أستمع إلى «بشير حمد شنّان» يُغني بكلمات جنسية صريحة لا تُنتج ما يعكس واقع تدين المجتمع المحافظ، وليس بشيرًا وحده، بل كل جيلِ الفن الشعبي -آنذاك- كان يُغني بمعانٍ صريحة، ومستوى يُشبه تلك الإلكترونات اليسارية التي أصرت على أن تبقى يسارية حتى مع محاولة المرآة لجعلها يمينيّة، ولا يتوقف الأمر على الشعبيين، بل حتى من كانوا في الواجهةِ الرسمية كطلال وعبده، كانت كلمات أغانيهم تخرج بسلاسة إلى أذن المجتمع؛ بألفاظ لا تعكس ما تريده الأسرة فعليًا ويمارسه المجتمع سلوكيًا، ولا تُبرز الواقع السعودي كما يريد، ولا الذهنية الأخلاقية كما هي في السلوك الفردي والمؤسسي، فمحمد عبده يغني في الستينيات: «ظالم وفي الحكم جاير/ وبرضنا قابلينك/ ما دام سر الضماير/ في ايدك يبو شعر ثاير». اليوم انعكست الصورة ظاهريًا: الكلمات صارت محروسة ومحاصرة، لا يجرؤ مغنٍ أو شاعر على تجاوز محظور أخلاقي أو ديني، بينما الواقع منفتح جدا يتجاوز كل ما تكبته اللغة. ومن المفارقة أنَّ محمد عبده الذي غنى «ما دام سر الضماير» وأطرب الأسماع بها، يخرج -أخيرًا- ليؤيد حكم مفتٍ أفتى بحرمة هذه الكلمات، لأنه لا يعلم سر الضمائر إلا الله.
هذه المفارقة لا بدَّ أن تربط القارئَ بتلك الظاهرة، أي أنَّ المرآةَ -بين القول والفعل في زمنين سعوديين مختلفين- لم تعكس ما يُتوقّع منها، بل ربما فضحت الخلل الذي أصاب المجتمع، فمن كان يتوقع أن يكون هذا الزمن - بزهوه الحداثي وما بعده- هو الذي يخاف من الكلمة، بينما الماضي -بكل محافظته- كان يحتملها بلا قلق وتسلّط؟ ويمكن أن تنطبق هذه المفاجأة المِرآتيّة على أنواعٍ من الرقابة بين زمنين، وكيف تُفاجئك المرآةُ بما لا تتوقعه.
التفاتة:
ما دامَ الكون وُجِد لأنَّ الطبيعةَ لم تحترم تناظر المِرآة، فربما كان المجتمع كذلك فالعلاقة بين القول والفعل ليست انعكاسًا متماثلًا، بل انحياز غير عقلاني يُشوّه المرآة ويُبدّل الصورة في كل زمن.