بقلم فاطمة المزيني: التسامح الديني الحل المستدام
تبدو معظم النزاعات في العالم وكأنها ذات دوافع سياسية أو اقتصادية أو جيوسياسية، لكننا حين نعود إلى جذورها الأولى نجد أن شرارتها الأولى غالبا كانت دينية. فكرة الحق المطلق، أو تصور متصلب عن «الفرقة الناجية»، أو رغبة في فرض طريق واحد للخلاص. يثبت التاريخ هذه الفكرة بوضوح، فالحروب عبر التاريخ لم تبدأها السيوف والبنادق، بل الاعتقاد بأن الحقيقة لا تتسع إلا لمالك واحد.
من الحروب الصليبية إلى محاكم التفتيش إلى الصراع الهندوسي الإسلامي في شبه القارة الهندية، إلى النزاعات الطائفية الحديثة في الشرق الأوسط، نجد القاسم المشترك هو تحول الاختلاف الديني من مسألة روحية فكرية إلى هوية صلبة متعالية تحكم السياسة وتوجه عمل الدولة.
جربت الأمم عبر التاريخ تطبيق معاهدات واتفاقات وتوازنات قوى، أدت إلى مراحل هدوء مرارا، لكن جذور النزاع تبقى حية في كل مرة تنتظر لحظة انفجار جديدة، ذلك أن السلام الذي يبنى على الخوف هو في طبيعته مؤقت. ومن هنا تأتي الحاجة الملحة لمسألة التسامح الديني بوصفه فعل بقاء وضرورة إستراتيجية وخيارا سياسيا وثقافيا مستداما قادرا على تجفيف منابع العنف.
والتسامح لا يعني تمييع الإيمان ولا المساواة بين العقائد وكأنها حقائق متطابقة، بل يعني الاعتراف بإنسانية الآخر، وحقه في الاختلاف دون نفيه أو إقصائه. إنه ببساطة الانتقال من فلسفة «أنا على حق» إلى فلسفة «نحن مختلفان لكن إنسانيتنا أوسع من هذا الاختلاف»،
وإذا ما رجعنا إلى التاريخ فإننا نرى الأمثلة الحية على محاولات ترسيخ هذا المبدأ، كعهد النبي، صلى الله عليه وسلم، لنصارى نجران، أو عهده لليهود في المدينة، هذه المواثيق قدمت نموذجا مبكرا لشرعية الاعتراف بالآخر.
الأندلس في عصرها الذهبي حيث تعايشت الديانات فيها وشكلت نهضة معرفية واجتماعية فريدة.
النماذج كثيرة من مختلف الحضارات والأزمنة، تتضافر لإثبات أن اختيار «التسامح الديني» هو الطريق الوحيد للسلام والنمو، وإن توسيع دائرة المشتركات الإنسانية بين الشعوب أفضل من بناء الجدران الثقافية تحت شعارات متطرفة.
التسامح الديني بهذا المعنى ليس شعورا، بل هو نظام فكري وثقافي وقانوني يقوم على أسس ويطبق عبر آليات متعددة.
ولعل أهم هذه الآليات «التربية»، فالطفل الذي ينشأ على أن المختلف «خصم» يكبر «مقاتلا»، أما الذي يرى في الاختلاف ثراء إنسانيا فإنه يكبر «محاورا»، بناء، واثقا في ذاته لا يحتاج لإثباتها بإنكار الآخرين.
كما يجب إعادة تأويل التراث الديني وفق قيم الرحمة والإحياء. مما يحول العلاقة مع الله في أشكالها المتعددة إلى قوة عمران للأرض وسلام للبشرية.
ختاما.. التسامح الديني «مشروع حضاري» لا تتحقق استدامته بقرارات سياسية فقط، بل عبر وعي مجتمعي، ومناهج تعليمية تعيد تقديم التاريخ بموضوعية، وخطاب إعلامي متوازن يحد من الاستقطاب. وفقه ديني يعيد الاعتبار لقيمة الرحمة، وفضاء عام يجعل الاختلاف جزءا طبيعيا من العيش المشترك.