بحث يتناول شخصية محمد عمارة .. المفكر الإسلامي ودوره في تشكيل الوعي الحضاري والسياسي المعاصر
يتناول هذا البحث الأكاديمي شخصية الأستاذ الدكتور محمد عمارة (1931–2020م)، أحد أبرز المفكرين الإسلاميين في العصر الحديث، من خلال دراسة شاملة لمشروعه الفكري، وإسهاماته العلمية، والثقافية، والسياسية، والدبلوماسية. يهدف البحث إلى إبراز دوره في تشكيل الوعي الحضاري والسياسي الإسلامي المعاصر، وتوضيح منهجه في الدفاع عن قضايا الأمة، وفي مقدمتها قضية كوسوفا التي اتخذ منها نموذجًا لتجسيد البعد الإنساني والحضاري للفكر الإسلامي.
وقد اعتمدت الدراسة على تحليل نصوصه، ومقالاته، وشهاداته، وعلى تجربة شخصية وعلمية مباشرة بين الكاتب والمفكر، مما أضفى عليها بعدًا توثيقيًا وإنسانيًا نادرًا.
يخلص البحث إلى أن الدكتور محمد عمارة قدّم نموذجًا للمثقف العضوي الذي يجمع بين الفكر والرسالة، وبين التحليل والنضال، وأسهم في بلورة خطاب إسلامي معاصر يجمع بين الأصالة والاجتهاد، وبين المحلية والعالمية، وبين الدفاع عن الهوية والانفتاح على الآخر.
المقدمة
في عالمٍ تتسارع فيه التحولات الفكرية والثقافية، وتتشابك فيه التحديات الحضارية والسياسية، تبرز الحاجة إلى دراسة الشخصيات التي أسهمت في تشكيل الوعي الإسلامي المعاصر، ودفعت بمسيرة الأمة نحو التنوير والتحرر. ومن بين هذه الشخصيات، يسطع نجم الأستاذ الدكتور محمد عمارة، المفكر الإسلامي الموسوعي، الذي كرّس حياته لخدمة الفكر والدعوة، وجعل من قلمه منبرًا للحق، ومن كتاباته جسورًا تربط الماضي بالحاضر، وتستشرف المستقبل.
لقد كان للدكتور عمارة حضورٌ فكريٌّ مميزٌ في الساحة الإسلامية والعربية، حيث جمع بين التحقيق العلمي، والالتزام الحضاري، والانفتاح النقدي، مما جعله مرجعًا في قضايا التجديد، والحوار، والنهضة. وقد تميز مشروعه الفكري بالشمول والعمق، إذ تناول قضايا الفلسفة الإسلامية، والتاريخ الحضاري، والسياسة الشرعية، والدعوة المعاصرة، بل وتجاوز ذلك إلى الدفاع عن قضايا الأمة في المحافل الدولية، بأسلوب علمي رصين، ومنهج تحليلي متماسك.
إن العلاقة الشخصية والعلمية التي جمعتني بالأستاذ الدكتور محمد عمارة، والتي توّجتها زيارات متكررة وكتابٌ خاصٌ عن دوره في قضية كوسوفا، تمنحني رؤيةً داخليةً دقيقةً عن هذا المفكر الكبير، وتدفعني لتقديم هذا المقال الأكاديمي الذي يُقيّم تأثيره في مجالات الفكر والأدب والعلم والثقافة والسياسة والدبلوماسية، ويُبرز إسهاماته في خدمة الإسلام والإنسانية، ويُسلّط الضوء على ملامح مشروعه الفكري الذي لا يزال يُلهم الأجيال.
الفصل الأول: السيرة العلمية والفكرية للأستاذ الدكتور محمد عمارة
وُلد الأستاذ الدكتور محمد عمارة في 8 ديسمبر 1931 بمحافظة كفر الشيخ في مصر، ونشأ في بيئة ريفية محافظة، مما أسهم في تشكيل وعيه الديني والثقافي منذ الصغر. وقد بدأ رحلته العلمية في وقت مبكر، حيث التحق بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة، وتخصص في الفلسفة الإسلامية، ليحصل على درجة الماجستير عام 1970 بأطروحة تناولت “المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية”، ثم نال درجة الدكتوراه عام 1975 بأطروحة بعنوان “الإسلام وفلسفة الحكم”، وهي من الدراسات الرائدة التي جمعت بين العمق الفلسفي والطرح السياسي الإسلامي.
تميّز الدكتور عمارة بقدرة فريدة على الجمع بين التحقيق العلمي الدقيق والانخراط في قضايا الفكر الإسلامي المعاصر، فكان قارئًا نهمًا للتراث، ومُفكّرًا ناقدًا للواقع، ومُجدّدًا في الطرح، دون أن ينفصل عن الأصول. وقد انصب اهتمامه على دراسة تيارات الفكر الإسلامي، وأعلام النهضة، مثل رفاعة الطهطاوي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، حيث قام بجمع ونشر أعمالهم، وبيان أثرهم في اليقظة الفكرية الحديثة.
كما شارك الدكتور عمارة في تحرير العديد من الموسوعات الفكرية والسياسية، منها “موسوعة السياسة”، و”موسوعة الحضارة العربية”، و”موسوعة العلوم السياسية”، و”موسوعة الشروق”، و”موسوعة سفير”، وغيرها، مما يدل على اتساع أفقه المعرفي، وقدرته على معالجة القضايا من زوايا متعددة.
وكان له حضور بارز في المؤتمرات والندوات الفكرية داخل العالم العربي والإسلامي وخارجه، حيث ناقش قضايا الفكر والدعوة، وشارك في الحوارات الفكرية مع رموز التيارات المختلفة، مما جعله من أبرز وجوه الحوار الحضاري في العصر الحديث.
وقد نال عضوية عدد من المؤسسات العلمية والفكرية، منها المجلس الأعلى للشئون الإسلامية في مصر، والمعهد العالمي للفكر الإسلامي، وغيرها من الهيئات التي تعكس مكانته العلمية والفكرية.
الفصل الثاني: المشروع الفكري للدكتور محمد عمارة
يُعد المشروع الفكري للأستاذ الدكتور محمد عمارة من أبرز المشروعات الفكرية في العالم الإسلامي المعاصر، حيث اتسم بالشمولية والاتساق، وارتكز على رؤية حضارية متكاملة تهدف إلى إعادة بناء الوعي الإسلامي على أسس علمية، نقدية، وتاريخية. وقد انطلق هذا المشروع من إيمان عميق بأن الفكر الإسلامي يمتلك من المقومات ما يؤهله للنهوض بالأمة، شرط أن يُعاد تفعيله وتحريره من الجمود والتبعية.
ملامح المشروع الفكري
• التراث والتحقيق: انكب الدكتور عمارة على دراسة التراث الإسلامي، فحقق نصوصًا نادرة، وكتب دراسات معمقة عن الفرق والمدارس الفكرية، مثل المعتزلة، والأشاعرة، والصوفية، وغيرها، بهدف إبراز التنوع والثراء في الفكر الإسلامي.
• التجديد والاجتهاد: دعا إلى تجديد الفكر الإسلامي من داخل أصوله، لا من خلال تقليد الغرب أو الانفصال عن الهوية، فكان من أبرز المدافعين عن الاجتهاد المعاصر، وضرورة تفعيل العقل المسلم في مواجهة التحديات.
• الحوار الحضاري: خاض مناظرات فكرية مع رموز التيارات الليبرالية، والعلمانية، والماركسية، وغيرها، بأسلوب علمي رصين، وحرص على بيان أوجه التناقض في تلك المذاهب، دون أن ينزلق إلى التهجم أو الإقصاء.
• النهضة الإسلامية: آمن بأن النهضة لا تكون إلا من خلال مشروع حضاري متكامل، يبدأ من إصلاح التعليم، وتحرير الفكر، ومواجهة الفقر والجهل والمرض، وقد عبّر عن ذلك في كتاباته ومشاركاته في المؤتمرات.
الإنتاج العلمي
بلغت مؤلفات الدكتور محمد عمارة أكثر من مائة كتاب، تناولت قضايا الفكر، والسياسة، والتاريخ، والدعوة، والنهضة، وقد تُرجمت العديد منها إلى لغات عالمية، مثل الإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والتركية، والفارسية، مما يدل على عالمية خطابه واهتمام المؤسسات الفكرية الدولية بإنتاجه.
وحدة الرؤية
ما يميز كتابات الدكتور عمارة أنها تنطلق من رؤية واحدة متماسكة، وهي التعبير عن الفكر الإسلامي المعاصر، والدفاع عنه، وتقديمه كبديل حضاري قادر على مواجهة التحديات، مما يجعل مشروعه الفكري متماسكًا، ومُلهمًا، وقادرًا على التأثير في الأجيال.
الفصل الثالث: الإسهامات السياسية والدبلوماسية والدفاع عن قضايا الأمة
لم يكن الأستاذ الدكتور محمد عمارة مجرد مفكر أكاديمي منعزل في برج عاجي، بل كان منخرطًا بعمق في قضايا الأمة الإسلامية، مدافعًا عنها بقلمه وفكره، ومُسهمًا في تشكيل الوعي السياسي والدبلوماسي لدى الشعوب والنخب على حدٍّ سواء. وقد تميزت مواقفه بالوضوح، والجرأة، والاتزان، حيث جمع بين الحس الإنساني العميق، والرؤية الفكرية الرصينة، والطرح الحضاري المؤثر.
الدفاع عن قضايا المسلمين
كان للدكتور عمارة موقف مشرف في الدفاع عن القضايا العادلة للأمة الإسلامية، خاصة في المناطق التي تعرضت للاضطهاد والتطهير العرقي، مثل البوسنة والهرسك وكوسوفا. فعندما وقعت مجازر البوسنة على يد القوات الصربية، لم يكتف بالتنديد، بل كتب مقالات قوية حمّل فيها العالم المعاصر مسؤولية الصمت والتواطؤ، مؤكدًا أن المأساة ليست محلية بل إنسانية شاملة.
أما في قضية كوسوفا، فقد كان له دور ريادي في الدفاع عن حقوق الشعب المسلم هناك، حيث كتب مقالًا مؤثرًا بعنوان: “شعب كوسوفا يملك مقومات التمتع بحقه في تقرير مصيره”، كشف فيه ألاعيب الصرب، وأبرز صمود الشعب الكوسوفي، ودعا إلى دعم استقلاله وحقه في الحرية، مؤكدًا أن القلم قد يكون أبلغ من السلاح في ساحة المعركة الفكرية.
الفكر كسلاح دبلوماسي
آمن الدكتور عمارة بأن الفكر الإسلامي يجب أن يكون جزءًا من العمل الدبلوماسي، وأن الدفاع عن قضايا الأمة لا يكون بالشعارات، بل بالتحليل العميق، والطرح العلمي، والمرافعة الفكرية أمام العالم. وقد استخدم كتاباته ومشاركاته في المؤتمرات كمنصات دبلوماسية غير رسمية، تُعبّر عن صوت الأمة، وتُطالب بحقوقها، وتُفنّد الروايات الظالمة.
رؤية حضارية للتغيير
كان يؤمن أن خدمة الإسلام لا تكون بالهتافات، بل بالعمل على إزالة ثالوث الفقر والجهل والمرض، الذي يُعيق نهضة الأمة، ويُشوّه صورة الإيمان في نفوس أبنائها. وقد دعا إلى مشروع حضاري شامل يُعيد بناء الإنسان المسلم، ويُحرره من التبعية، ويُؤهله للمشاركة الفاعلة في صناعة المستقبل.
الفصل الرابع: الرمزية الفكرية والتأثير الثقافي للدكتور محمد عمارة
يُعد الأستاذ الدكتور محمد عمارة من الرموز الفكرية البارزة التي تجاوز تأثيرها حدود الجغرافيا واللغة، ليُصبح علامة فارقة في مسيرة الفكر الإسلامي الحديث، ومرجعًا موثوقًا في قضايا التجديد، والهوية، والحضارة. لقد استطاع أن يُجسّد في شخصه نموذج المفكر الموسوعي، الذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة، وبين التخصص والانفتاح، وبين الالتزام والانخراط في قضايا الأمة.
شخصية علمية موسوعية
تميّز الدكتور عمارة بسعة اطلاعه، وعمق تحليله، وتنوع اهتماماته، مما جعله قادرًا على معالجة قضايا معقدة في الفلسفة، والسياسة، والتاريخ، والدين، بأسلوب علمي رصين، ولغة واضحة، ومنهج نقدي متوازن. وقد انعكس هذا الاتساع في مؤلفاته التي تجاوزت المائة، والتي أصبحت مراجع معتمدة في الجامعات والمراكز البحثية.
مرجعية فكرية للأجيال
أثّرت كتاباته في أجيال من الباحثين والمثقفين والدعاة، حيث قدّم نموذجًا للفكر الإسلامي المنفتح على العصر، دون أن يتنازل عن ثوابته. وقد ساهم في إعادة الاعتبار للفكر الإسلامي كمنظومة معرفية قادرة على التفاعل مع التحديات، وتقديم حلول واقعية، ومقاربات عقلانية.
رمز لليقظة الحضارية
أصبح الدكتور عمارة رمزًا لليقظة الإسلامية المعاصرة، بما مثّله من مشروع فكري متكامل، ودور نضالي في الدفاع عن قضايا الأمة، وإسهام فعّال في بناء الوعي الحضاري. وقد شكّلت مواقفه وكتاباته منارة للباحثين عن الحقيقة، ودعامة للمثقفين الساعين إلى النهضة.
حضور دائم في الذاكرة الثقافية
رغم وفاته في 28 فبراير 2020، فإن فكره لا يزال حيًّا، يُتداول في الندوات، ويُدرّس في الجامعات، ويُستشهد به في المقالات والدراسات. وقد ترك إرثًا فكريًا ضخمًا، يُعد من أهم ما أُنتج في الفكر الإسلامي الحديث، ويُشكّل ركيزة أساسية لأي مشروع نهضوي معاصر.
الفصل الخامس: لقاء الأستاذ بكر إسماعيل الكوسوفي بالمفكر الإسلامي الكبير الدكتور محمد عمارة: محطة فكرية ودبلوماسية في رحاب القضية الكوسوفية
في إطار التواصل الفكري والدبلوماسي الهادف إلى تعريف النخب المصرية والعربية بقضية كوسوفا، مثل اللقاء الذي جمَعَ ممثلَها الأستاذ بكر إسماعيل الكوسوفي بالمفكر الإسلامي المرموق الدكتور محمد عمارة محطةً فارقة. لم يكن هذا اللقاء مجرد زيارة بروتوكولية، بل كان حوارًا استراتيجيًا غاصَ في عمق القضايا الإسلامية، واستشرفَ آفاق النهضة، وقدَّم نموذجًا للتفاعل الخصب بين الدبلوماسية الواعدة والفكر الأصيل. تقدم هذه السطور شهادة شخصية على هذا اللقاء، تسلط الضوء على الأبعاد الإنسانية والفكرية التي طبعت هذه الشخصية الاستثنائية، وتكشف عن الدور الذي يمكن أن يلعبه المثقفون في دعم قضايا أمتهم.
يُعد الأستاذ الدكتور محمد عمارة (رحمه الله) أحد أبرز المفكرين الإسلاميين في العصر الحديث، وقد تميز بدوره الريادي البارز في خدمة قضايا العالم الإسلامي بكليته، حيث سخَّر فكره وقلمه في نصرة الإسلام والمسلمين، معايشًا همومهم من القدس الشريف إلى كوسوفا. وقد حَباه الله بعلم واسع وخبرة عميقة في معالجة القضايا المرتبطة بالهوية الإسلامية والدفاع عن حقوق الإنسان المسلم.
تعرفت على سمعة الدكتور عمارة أولاً عبر وسائل الإعلام المختلفة، ثم ازدادت معرفتي به أثناء فترة دراستي في جامعة الأزهر الشريف، وبالتحديد بعد التحاقي بكلية اللغة العربية في القاهرة. وبفضل صلاتي الوثيقة بعدد من المفكرين البارزين، نصحني بعضهم بالتواصل مع الدكتور عمارة واللقاء به، مُشيدين بفكره المستنير وعقليته العلمية المتحررة والمثمرة.
وفقني القدر بالحصول على رقم هاتفه الخاص، فبادرت بالاتصال به، فما كان منه إلا أن رحب بي ترحيباً حاراً. ومن خلال ذلك الحوار الهاتفي الأول، لمستُ فيه روحاً علميةً ساميةً وأخلاقاً عالية، تركت في نفسي أثراً عميقاً دفعني إلى التعلق بشخصيته الفذة منذ الوهلة الأولى.
تم اللقاء الشخصي في منزله الكريم، حيث عرفته بنفسي وشرحت له بالتفصيل الوضع في كوسوفا والبوسنة والهرسك. وقد أسهم هذا اللقاء في تبادل مثمر للآراء والأفكار، كما قدَّمت له خلاله معلومات مفصلة عن أوضاع المسلمين في منطقة البلقان. ومن خلال هذا اللقاء الأول، تأكد لي أن الرجل يمتلك فكراً رفيعاً واطلاعاً واسعاً، مدعوماً بخبرة هائلة في شتى مجالات الثقافة والعلوم، مما أثرى حوارنا وأعطاه بُعداً استراتيجياً.
كما أذهلتني مكتبته الشخصية الضخمة التي تزخر بأندر الكتب وأعظمها في التراث الإسلامي والفكر الإنساني، مما جعلها مرآة لعقله الذي يشبه مكتبةً عامرةً بالمعلومات القيمة في شتى المجالات. هذا التنوع المعرفي هو ما يمكن أن نعزى إليه ذلك الفهم العميق والدقيق الذي يتمتع به الدكتور عمارة لقضايا العالم الإسلامي، حيث يعايشها بروحه وعقله معاً.
وعلى الرغم من مكانته العلمية الرفيعة، إلا أن الدكتور عمارة قد ظهر متواضعاً في تعامله، متحلياً بالأخلاق الرفيعة، مصداقاً للحديث النبوي الشريف: "وَمَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ". وقد شعرت وأنا أمامه بأنني إزاء تطبيق عملي حي لهذا المبدأ السامي.
وفي تاريخ 15 أكتوبر 1995م، دار بيننا حوار قيم وشيق، تطرقنا فيه إلى جملة من الموضوعات والمشكلات التي يواجهها واقعنا المعاصر، مما أضاف بعداً آخر لهذه العلاقة الفكرية والدبلوماسية المثمرة.
الخاتمة وتحليل هذا اللقاء: يختتم هذا اللقاء بتقديم نموذج مكتمل الأركان للتفاعل بين الدبلوماسية الواعية والفكر الأصيل. فالدكتور عمارة، من خلال حفاوة استقباله، وعمق حواره، واتساع أفقه، لم يكن مجرد مضيف، بل كان شريكاً حقيقياً في بناء رواية القضية الكوسوفية على أسس معرفية رصينة. أما الأستاذ الكوسوفي، فقد نجح، من خلال هذا اللقاء الاستباقي، في نسج خيوط علاقة استراتيجية مع أحد أبرز مراكز الفكر تأثيراً في العالم العربي، مما وسع من دائرة التأييد للقضية وأضفى عليها شرعية فكرية وأخلاقية. وهكذا، تظل مثل هذه اللقاءات شاهداً على أن الدبلوماسية الفعالة لا تقوم فقط على البروتوكولات الرسمية، بل على جسور الثقة والمعرفة التي يبنيها الأفراد المخلصون في صالونات المفكرين ومكتباتهم.
الفصل السادس: الدور الفكري للدكتور محمد عمارة في دعم قضية كوسوفا: دراسة في المنهج والمحتوى
شكّلت مأساة مسلمي كوسوفا في تسعينيات القرن العشرين محطةً فارقة في الوجدان الإسلامي والعالمي، حيث مثلت نموذجاً صارخاً لمحاولة طمس الهوية والإبادة الجماعية. وفي خضم هذه الأحداث، برزت أصواتٌ فكرية ودعوية دافعت عن قضية كوسوفا، ليس فقط من خلال الخطاب العاطفي، بل من خلال تأصيل شرعي وتحليل سياسي عميق. ويأتي الدكتور محمد عمارة كواحد من أبرز هذه الأصوات المؤثرة. لذلك، يهدف هذا الفصل إلى تحليل وتقييم الدور الريادي الذي قام به الدكتور عمارة في خدمة قضية كوسوفا، من خلال التركيز على مرتكزاته الفكرية التي استند إليها، والمنهج الذي اتبعه في دفاعه، مع تحليل نموذج تطبيقي من كتاباته.
تحليل الدور الفكري للدكتور محمد عمارة:
اعتمد دفاع الدكتور محمد عمارة عن قضية كوسوفا على أسس متينة، يمكن إجمالها في المحاور التالية:
1. التأصيل الشرعي للدفاع والنصرة: أسّس عمارة لموقفه من منطلق إسلامي واضح، مؤكداً على أن الدفاع عن النفس والعرض واجب شرعي، وأن نصرة المسلم لأخيه المسلم فرض كفاية. وقد استشهد بالنصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي تحض على رد العدوان والوقوف بوجه الظلم، مثل قوله تعالى: "وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ"، معتبراً أن السكوت على الظلم يمثل "دنية" لا يقبلها المؤمن في دينه أو دنياه.
2. تحليل الأوضاع الدولية وازدواجية المعايير: لاحظ عمارة بمنظوره التحليلي ازدواجية المعايير في التعامل مع القضايا الدولية، حيث سُحبت حق تقرير المصير من شعب كوسوفا المسلم بينما مُنح للآخرين، بل وشُجّع الصرب على بناء دولتهم القومية عبر سياسات التطهير العرقي. وقد رأى في هذا انحيازاً صريحاً ضد العالم الإسلامي.
3. تفنيد مقولة جبن المسلمين: سعى إلى تحطيم الصورة النمطية عن جبن المسلمين، مستشهداً بصمود الشعوب المسلمة في مواجهة قوى عظمى، كالمقاومة الباسلة، صمود مسلمي البوسنة والهرسك وكوسوفا رغم قلة العدة والعتاد، مما يدحض هذه المقولة ويثبت أن الأمة تملك من مقومات الصمود ما يؤهلها للدفاع عن وجودها.
4. سلاح القلم والكلمة كبديل عن ساحة المعركة: أدرك الدكتور عمارة أن المعركة ليست عسكرية فحسب، بل هي معركة وعي ورأي عام. فحول قلمه ولسانه إلى سلاح فعال، من خلال الكتابة والتنديد بالجرائم الصربية، والعمل على كسب الشرعية الدولية للقضية، معتبراً هذا الجهد "مساوياً للقتال بالأسلحة" في ظل تلك الظروف.
نموذج تطبيقي: مقال "شعب كوسوفا يملك مقومات التمتع بحقه في تقرير مصيره":
• في مقالته المؤرخة في 24 سبتمبر 1996، قدّم الدكتور عمارة رؤية تحليلية استشرافية لقضية كوسوفا، حيث:· ربط القضية بالسياق التاريخي: ربط ظهور القضية بزوال القهر الشيوعي وتفكك الكيانات السياسية المصطنعة، مما فتح الباب أمام قوميات المنطقة للمطالبة بحقها في تقرير المصير.
• حاجج قانونياً وهوياتياً: أسس لحق شعب كوسوفا في تقرير مصيره من خلال سرده للمقومات السبعة التي تمتع بها، وهي: الوحدة في الأصل، اللغة، الثقافة، الدين، الحضارة، التاريخ، والرغبة الجماعية في بناء الدولة القومية.
• طرح مساراً عملياً للحل: دعا إلى عدم تكرار "المأساة البوسنية"، واقترح مساراً دبلوماسياً سلمياً يبدأ بعرض القضية على المؤسسات الدولية (الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي، منظمة التعاون الإسلامي) لاكتساب الشرعية أولاً، يليه مرحلة من "الجهاد السلمي" لتحقيق الهدف النهائي وهو الاستقلال.
ويخلص هذا الفصل إلى أن الدور الذي قام به الدكتور محمد عمارة في قضية كوسوفا لم يكن مجرد رد فعل عاطفي على مأساة إنسانية، بل كان دفاعاً مؤسساً على رؤية فكرية شاملة. لقد نجح في توظيف معرفته العميقة بالتراث الإسلامي والتحليل السياسي لتأصيل حق شعب كوسوفا في تقرير مصيره ووجوب نصرته. وقد مثّل مقاله الذي تم تحليله نموذجاً للفكر الاستراتيجي الذي يجمع بين الشرعية الأخلاقية والرؤية السياسية الواقعية. وبذلك، لم يكتفِ عمارة بإدانة الظلم، بل قدّم إطاراً فكرياً ومنهجياً للتعامل مع القضية، مساهماً في تشكيل الوعي الجماعي وإثراء الحوار حول واحدة من أهم قضايا الأمة في العصر الحديث، مما يؤكد على الأهمية البالغة للدور الذي يمكن أن يلعبه المفكر في المعارك المصيرية لأمته.
الفصل السابع:عمارة وكوسوفا: المثقف العضوي وشهادة التاريخ في قضية إسلامية
شكّلت شخصية المفكر الإسلامي الكبير الأستاذ الدكتور محمد عمارة نموذجًا فريدًا للمثقف العضوي الذي لا ينفصل فكره عن هموم أمته، ولا ينعزل برجه العاجي عن معاركها المصيرية. في هذا الإطار، تأتي شهادته التاريخية على دور الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي كممثل لكوسوفا في مصر، لتكون أكثر من مجرد كلمات ثناء عابرة. إنها وثيقة سياسية وفكرية تضع قضية شعب مسلم تحت مجهر الضمير العالمي، وتكشف عن استراتيجية عمارة في التعامل مع القضايا الإسلامية الدولية، حيث يتحول المثقف من ناقل للحدث إلى فاعل في صناعته، ومن محلل للواقع إلى شاهد على الحقيقة. هذا الفصل لا يقتصر على سرد شهادة عمارة، بل يحللها لتكشف عن الأبعاد الفكرية والسياسية التي جعلت من كوسوفا محكًا لضمير الأمة واختبارًا لصدق خطابها.
في سياق متابعته المستفيضة لقضايا العالم الإسلامي، وتحديدًا في منطقة البلقان، أدلى الأستاذ الدكتور محمد عمارة – رحمه الله – بشهادته التاريخية في السابع والعشرين من فبراير لعام 2001م، مصفًّا فيها الدور الجليل الذي قام به الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي بصفته ممثلًا لكوسوفا في مصر.
وجاء نص تصريحه على النحو التالي:
"الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا ونبينا محمد ﷺ، وبعد:
فلقد شاء الله سبحانه وتعالى أن أتابع أحداث البلقان منذ تفجّر الصراع فيها... ثم كانت لي اهتمامات ومتابعات لقضية كوسوفا منذ أن تفجّر الصراع الدامي على أرضها.
وطوال هذه السنوات، كان الأخ الفاضل الأستاذ بكر إسماعيل مصدرًا من أهم مصادر التعريف بهذه القضية المصيرية. وكان لنشاطه الإعلامي والدبلوماسي الأثر الطيب والنافع في تقديم الحقائق المجردة، ونقل صوت المظلومين، إلى دوائر الفكر والإعلام وصنع القرار في مصر والعالم العربي.
وفّقه الله وأعانه، وبارك في جهوده المخلصة لخدمة القضايا الإسلامية والإنسانية."
التحليل النقدي الأدبي والسياسي
أولاً: التحليل الأدبي والخطابي:
1. البناء الاحتفائي: يفتتح عمارة خطابه بالحمدلة والصلاة على الرسول، مما يضفي على النص طابعًا جادًا وقدسيًا، ويخرجه من دائرة الكلام العابر إلى دائرة "الشهادة" الموثقة. هذا الافتتاح يرفع من شأن الموضوع والشخص، ويجعل الكلام بمثابة إدلاء بشهادة أمام الله والتاريخ.
2. اللغة الرصينة والموجزة: يتميز النص باقتصاده اللغوي وقوة تعبيراته. استخدام كلمات مثل "تفجّر الصراع الدامي" يوحي بالعنف المفاجئ والكارثي، بينما تعبير "مصدر من أهم مصادر التعريف" يمنح الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي مكانة أكاديمية وإعلامية رفيعة، تتجاوز كونه مجرد ناشط.
3. الانزياح الدلالي: هناك تحول دلالي من "الدور التمثيلي" إلى "الدور المعرفي". فالدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي ليس دبلوماسيًا عاديًا، بل هو "مصدر للمعرفة". هذا الانزياح يضفي شرعية فكرية على جهوده، ويجعل قضية كوسوفا ليست مجرد نزاع سياسي، بل قضية تحتاج إلى فهم وتفسير.
4. التكثيف والدلالة: عبارة "تقديم الحقائق المجردة" تحمل إدانة ضمنية للإعلام المضاد الذي كان يروّج لأكاذيب عن الصرب ويشوّه صورة المسلمين في كوسوفا. وهي تشير إلى أن دور الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي كان دور "كاشف الحقيقة" في ساحة مليئة بالتضليل.
ثانيًا: التحليل السياسي والفكري الواسع:
1. رؤية عمارة الجيوسياسية: تكشف الشهادة عن رؤية عمارة الاستراتيجية للعالم الإسلامي ككل متصل، حيث لا تنفصل قضية كوسوفا عن قلب الأمة. متابعته لأحداث البلقان منذ البداية تؤكد إيمانه بـ "وحدة القضية الإسلامية" رغم تعدد الجغرافيا، ورفضه لفكرة "الهامشية" التي حاولت بعض الأطراف إلصاقها بقضايا المسلمين خارج العالم العربي.
2. المثقف كطرف فاعل: عمارة هنا لا يلعب دور المشاهد، بل يضع نفسه – من خلال اعترافه بالدور – كشاهد ومساند. إنه يمارس دور المثقف العضوي بحسب مفهوم غرامشي، الذي يضع فكره في خدمة قضايا مجتمعه والأمم المماثلة له. شهادته هي سلاح في المعركة، تهدف إلى تحريك الضمير وترسيخ الشرعية.
3. السياق التاريخي الحاسم: عام 2001 هو توقيت بالغ الأهمية. فالصراع في كوسوفا (1998-1999) كان قد انتهى تدخلاً عسكريًا دوليًا، لكن المرحلة كانت تتطلب بناء شرعية سياسية ودولية لكوسوفا المستقلة. شهادة مفكر بحجم عمارة في هذا التوقيت كانت دعمًا معنويًا وسياسيًا كبيرًا، يساهم في إبقاء القضية حية في الضمير العربي والإسلامي، ويمنح ممثلها شرعية في الأوساط المصرية.
4. الجمع بين البُعد الإسلامي والإنساني: ختم عمارة دعاءه بأن يبارك في جهود الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي لخدمة "القضايا الإسلامية والإنسانية". هذا الجمع مقصود وذو دلالة عميقة. فهو من ناحية يؤكد على الانتماء الإسلامي للقضية، مما يحرّض المشاعر الدينية للجماهير، ومن ناحية أخرى يقدمها كقضية عدالة إنسانية عالمية، مما يوسع قاعدة التأييد ويفكك أي محاولة لتهميشها كقضية "طائفية".
5. نقد الخطاب الرسمي العربي الضمني: يمكن قراءة هذه الشهادة كنقد غير مباشر للتراخي أو التردد في الموقف الرسمي العربي من قضية كوسوفا في ذلك الوقت. بمنحه الشرعية لممثلها، يكون عمارة قد أكد على ضرورة أن تتبنى الأمة قضاياها، وهو ما قد يكون تلميحًا إلى تقصير بعض الحكومات.
وأخيرًا، وفي ختام هذا الفصل، تُعدّ شهادة الدكتور محمد عمارة في حق الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي نموذجًا مكثفًا لفكر الرجل ومنهجه. فهي ليست مجرد تحية تقدير، بل هي بيان سياسي مصغّر، ووثيقة نضال فكري، وتحليل استراتيجي. لقد نجح عمارة، من خلال هذا النص الموجز، في توثيق لحظة من لحظات الصراع من أجل العدالة، ورفع شأن مناضل عنيد، وإرسال رسالة إلى دوائر صنع القرار بأن قضايا الأمة لا تقبل التجزئة. تذكرنا هذه الشهادة بأن قوة المثقف الحقيقية لا تكمن فقط في عمق أفكاره، بل في قدرته على تحويل هذه الأفكار إلى فعل مؤثر في الواقع، وشهادة تبقى في ذاكرة التاريخ شاهدة على حق شعب وعدالة قضية، وشجاعة رجل وقف ليقول كلمة الحق في زمن التعتيم والتضليل.
ومضات من فكر الدكتور محمد عمارة وشهادات في حقه
أولًا: من أقوال الدكتور محمد عمارة
لقد تميز الدكتور محمد عمارة، رحمه الله، بوضوح الرؤية، وقوة البيان، وعمق التحليل، فكانت كلماته مرآة لفكره الأصيل، وجهاده العلمي والدعوي. ومن أقواله المأثورة:
1. في دور الإسلام الحضاري:
"الإسلام لم يكن أبدًا دين انعزال، بل كان دائمًا حاملًا لمشروع حضاري جامع، يُقيم التوازن بين الروح والمادة، وبين الفرد والمجتمع."
2. في العلاقة بين العقل والنقل:
"العقل ليس خصمًا للوحي، بل هو أداة لفهمه وتفعيله في واقع الناس، وإن إقصاء العقل من ساحة التدين هو خيانة للإسلام نفسه."
3. عن تجديد الفكر الإسلامي:
"التجديد في الإسلام ليس هدماً للثوابت، بل هو إحياء للثابت ليؤدي دوره في المتغير، وتفعيل للأصول في ضوء المستجدات."
4. عن وحدة الأمة:
"الاختلاف سنة كونية، لكنّ التفرق مرض قاتل، وما لم تتوحد الأمة على الثوابت الجامعة فستظل فريسة للأعداء والطامعين."
5. في الدفاع عن الإسلام والهوية:
"معركتنا الكبرى ليست مع الآخر فقط، بل مع الذات حين تضعف، ومع فكر الاستلاب حين يتسلل إلى عقول أبنائنا."
ثانيًا: من شهادات الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي عن الدكتور محمد عمارة
عرف الأستاذ الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي الدكتور محمد عمارة عن قرب، وواكبه فكريًا وعلميًا، وكتب عنه شهادات عديدة تُعبّر عن تقديره العميق له. ومن أبرز ما قاله عنه:
1. "كان الدكتور محمد عمارة عقلًا موسوعيًّا، وإيمانًا رساليًّا، وقلمًا مجاهدًا في ساحة الفكر الإسلامي الحديث."
2. "عرفتُ في الدكتور عمارة صاحب مشروع لا صاحب موقف عابر، رجلًا حمل همّ الأمة في كتاباته، وناضل بقلمه دفاعًا عن ثوابتها وهويتها."
3. "من القلائل الذين جمعوا بين التنظير العميق والمشاركة الفاعلة في معارك الفكر والوعي؛ فلم يكن مفكرًا نخبويًا منعزلًا، بل كان لسان الأمة وضميرها."
4. "لقد أضاء لنا دروبًا في الفكر الإسلامي المعاصر، وربط بين تراث الأمة وآفاق المستقبل، فكان من أعمدة مدرسة التجديد الراشدة."
5. "رحم الله الدكتور محمد عمارة، فقد ترك فراغًا لا يملؤه إلا أن نُعيد قراءة تراثه، ونستلهم مشروعه الحضاري، ونسير على نهجه الوسطيّ المستنير."
نشيد الحق في كوسوفا: الفكر والنضال في مواجهة الظلم – قراءة نقدية في شعر الأستاذ الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي ودور المفكر الدكتور محمد عمارة في الدفاع عن قضايا الأمة
نشيد الحق.. في كوسوفا
يا رافعَ اللواءِ للفكرِ في الزمنِ العَصيبْ
ومفكّرًا حُرًّا إذا قالَ استجابَ لهُ المغيبْ
يا مِسكةَ الأرواحِ في ليلِ الضياعِ بلا طبيبْ
كتبتَ للبلقانِ نورًا.. حينَ أظلمَتِ الدروبْ
كوسوفا كانتْ جراحًا.. والسكينُ من قريبْ
صرختَ: هذا ظلمُ عصرٍ.. لا يجوزُ ولا يطيبْ
كأنما الأقلامُ تبكي.. والضميرُ بها يثيبْ
فقامَ فكرُكَ في الملايينِ الدليلَ على الصليبْ
ما خِفتَ سلطانًا ولا رهبتَ مِن قُوى التأليبْ
كنتَ الصوتَ الحرَّ، والنهجَ الذي لا يَغيبْ
فأنتَ فينا خالدٌ.. والحقُّ لا يومًا يَشيـبْ
وفي كوسوفا.. لكَ مِـنْ أهلِ الوفاءِ ألفُ نَصيبْ
المقدمة
تُعدّ قصيدة "نشيد الحق في كوسوفا" للأستاذ الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي إحدى النصوص الشعرية التي تجمع بين البعد الأدبي والرسالة الفكرية والسياسية والإنسانية. كتبها شاعر مثقف وأكاديمي ودبلوماسي يمثل صوت كوسوفا العربي والإسلامي، ليعبّر من خلالها عن امتنان الأمة الكوسوفية واعترافها بجميل المفكر الإسلامي الكبير الدكتور محمد عمارة، الذي لم يقف فكره عند حدود مصر، بل تجاوزها دفاعًا عن قضايا المسلمين في البلقان، وفي مقدمتهم مأساة كوسوفا.
القصيدة ليست رثاءً فحسب، بل هي نشيد وفاء ووثيقة فكرية تؤكد التلاحم بين الكلمة والموقف، بين الفكر والنضال، بين العالم العربي والعالم الإسلامي في مواجهة الظلم والاستبداد.
أولًا: الفكرة المركزية
تتمحور القصيدة حول تكريم الدكتور محمد عمارة بوصفه "صوت الحق" في زمنٍ صعب، وقف فيه مدافعًا عن كوسوفا حين كانت جراحها مفتوحة، والسكين لا تزال تقطع في جسدها.
يرى الشاعر في عمارة نموذج المفكر الحرّ الذي لا يخشى سلطانًا، ولا يخضع لتأليب القوى الكبرى، بل يواجه ببيانه القوي وسيف فكره المضيء ظلمة التزييف العالمي.
الفكرة المركزية إذًا هي الاعتراف بفضل المفكر في تحرير الضمير الإنساني وتنوير الوعي الإسلامي، وتأكيد أن الكلمة المخلصة قادرة على أن تضيء طريق المقهورين في معارك الوجود.
ثانيًا: التحليل الفني والأسلوبي
1. الأسلوب الخطابي والتكريمي:
القصيدة تخاطب الدكتور عمارة بضمير النداء ("يا رافع اللواء"، "يا مِسكة الأرواح")، وهو أسلوب يشي بالإجلال والإكبار. ويُبرز الشاعر صورة عمارة في هيئة المنقذ والمفكر المجاهد، في مقابل زمنٍ عصيبٍ ساد فيه الظلم والخذلان.
2. الرمز الديني والنضالي:
استخدم الشاعر مفردات مثل اللواء، النور، الحق، الصليب ليؤسس تضادًا رمزيًا بين الحق والنور (يمثله عمارة) والظلم والظلام (يمثله العدوان على كوسوفا).
هذه المفردات تُذكّر بخطاب النهضة الإسلامية الذي يجمع بين الإيمان والفكر، وهو ما يعكس أثر فكر عمارة في الشاعر.
3. الإيقاع والوزن:
القصيدة تسير بإيقاعٍ رزِينٍ متوازنٍ، يمزج بين الحماسة والعاطفة الهادئة، ما يمنحها نغمة خطابية تُناسب مضمونها التكريمي والنضالي. القافية الموحدة (بـ "يب") تخلق موسيقى تكرارية توحي بالثبات والإصرار.
4. الصور البلاغية:
o "كتبتَ للبلقان نورًا حين أظلمت الدروب": تشبيه الفكر بالقلم والنور معًا، مما يجعل الكتابة فعل مقاومة.
o "كأنما الأقلام تبكي": استعارة تصويرية تُبرز انفعال الأدب بالحدث السياسي.
o "فأنت فينا خالد": دلالة رمزية على خلود الفكر لا الجسد.
5. اللغة والأسلوب:
اللغة فصيحة، جزلة، تزاوج بين البيان القرآني والبعد الوجداني. الألفاظ مثل الضمير، الفكر، النور، الحق تعبّر عن عمق ديني وفلسفي متجذر في مدرسة الفكر الإسلامي المعاصر التي ينتمي إليها عمارة.
ثالثًا: دلالة القصيدة وأثرها
1. في الحياة الفكرية:
القصيدة تربط بين الفكر والموقف، فتؤكد أن الفكر الحر هو سلاح الأمة في مقاومة الاحتلال والاستلاب الثقافي، وأن المفكر الحق هو من يتخذ الكلمة موقفًا سياسيًا وإنسانيًا.
2. في الحياة الأدبية:
يمثل هذا النص نموذجًا لما يُسمّى بـ الشعر الدبلوماسي أو الثقافي المقاوم، الذي يجمع بين الجمالية الفنية والرسالة الحضارية، وهو أسلوب تميز به الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي في شعره الموجّه للعالم العربي.
3. في الحياة الدينية:
يعكس الشاعر رؤيته بأن الدفاع عن كوسوفا هو دفاع عن الأمة الإسلامية كلها، وأن مفكري الإسلام، كالدكتور محمد عمارة، لم يكونوا علماء في الأبراج العاجية، بل دعاة للحق الإنساني.
4. في الحياة الثقافية والعلمية:
القصيدة تُعد وثيقة رمزية عن التفاعل الثقافي بين كوسوفا والعالم العربي، إذ يعبر شاعر بكر إسماعيل كوسوفي بالعربية الفصحى ليشكر مفكرًا مصريًا، ما يؤكد وحدة الوجدان الإسلامي والثقافي.
5. في الحياة السياسية والدبلوماسية:
القصيدة ذات طابع دبلوماسي غير مباشر؛ فهي توجّه رسالة إلى العالم بأن كوسوفا لم تنس من دافع عنها، وأن الفكر العربي الإسلامي ساهم في دعم قضيتها إعلاميًا وفكريًا وإنسانيًا.
6. في الحياة النضالية:
"نشيد الحق" ليس شعارًا بل نداء للمقاومة الفكرية ضد التهميش والظلم، وفيه ربط بين الجهاد بالكلمة والجهاد بالدم، ليؤكد أن الحرية تبدأ من الوعي.
وفي الختام، فإن قصيدة "نشيد الحق في كوسوفا" ليست مجرد رثاء لمفكر إسلامي، بل هي صرخة وفاء وتوثيق رمزي لعلاقة الفكر العربي بالهمّ البلقاني. من خلال هذه القصيدة، يُجسّد الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي كيف يمكن للكلمة أن تصبح جسرًا بين الشعوب، وسلاحًا في وجه التزييف، وصوتًا للضمير الإنساني حين يصمت الآخرون.
لقد خلّد الشاعر فكر الدكتور محمد عمارة في الذاكرة الأدبية والسياسية لكوسوفا، ليبقى اسمه شاهدًا على أن الفكر الحر لا يموت، وأن من كتب بالحق، يكتب للتاريخ.
الخاتمة
يُجسّد الأستاذ الدكتور محمد عمارة صورة المفكر الإسلامي الذي لم يكتفِ بالتنظير، بل مارس فكره في ميدان الواقع، فكان شاهدًا على قضايا أمته، ومدافعًا عنها في المحافل الفكرية والإعلامية والسياسية. لقد نجح في أن يجعل من الفكر سلاحًا دبلوماسيًا، ومن القلم وسيلةً للجهاد الحضاري، ومن العلم منبرًا للدفاع عن الإنسان وكرامته.
تكشف الفصول الأخيرة من هذه الدراسة عن بعدٍ جديد في فكر عمارة، يتمثل في دعمه لقضية كوسوفا بوصفها نموذجًا للعدالة الكونية والضمير الإنساني، حيث جمع بين الرؤية الشرعية والتحليل السياسي الواقعي، مقدّمًا بذلك نموذجًا للفكر الذي يصنع الموقف، وللمثقف الذي يشارك في صناعة التاريخ.
إنّ دراسة فكر الدكتور عمارة ليست تكريمًا لشخصه فحسب، بل هي استعادة لمشروع حضاري متكامل يُعيد للأمة ثقتها بعقلها، وهويتها، ورسالتها في العالم. وما أحوج الفكر الإسلامي المعاصر إلى استلهام هذا النموذج الذي جمع بين الأصالة والاجتهاد، والعلم والالتزام، والفكر والعمل، ليظلّ نورُه هاديًا للأجيال في مسيرة النهضة والإصلاح.
كاتب الدراسة:
السفير والممثل السابق لكوسوفا
عضو مجمع اللغة العربية
عضو اتحاد الكتاب في كوسوفا ومصر
E-mail: [email protected]