الجمعة 19 أبريل 2024 الموافق 10 شوال 1445
رئيس مجلس الإدارة
خالد جودة
ads
رئيس مجلس الاداره
خالد جوده

الدكتور سيد النحراوي يكتب.. الصَفْعَــة

الأربعاء 17/نوفمبر/2021 - 06:27 م
هير نيوز

كنت يومها أعاني من تورم في خدي سبَّبه وجع في عصب أحد الضروس، ورغم ذلك استجمعت قواي وذهبت إلى موقع الحفر، حيث يستكمل الأنفار عمل التوصيلات اللازمة لمشروع الصرف الصحي، الذي أشرفُ على تنفيذه بالجهود الذاتية في قريتنا الميمونة.

قبلها كان "عم نور" ذلك الرجل الفقير المُعدم قد تجاوز محنته الأولى المتمثلة في جمع قيمة اشتراك التوصيل، فواصل الليل بالنهار كدَّا حتى جمعه ليشترك كأي فرد من أفراد القرية له الحق في الصرف الصحي الآمن. وبقيت مشكلته الكبرى، هو وباقي جيرانه، التي لا حل لها حتى هذه اللحظة. حيث أن جاره الأدنى للشارع يرفض رفضا باتا أن يمتد أنبوب الصرف إليهم وأن يكون بيته هو نهاية خط الصرف، ودعواه في ذلك وحجته أن مستوى ارتفاع بيوت هؤلاء الجيران- بما فيهم عم نور- يقارب سطح الأرض، وهو ما يعرِّض المنطقة للطفو والغرق بمياه المجاري، وهو ما يؤثر على بيته.

وعبثا حاولت إقناع صاحبنا بالفكرة، فقد رفض رفضا باتا، ولم تفلح محاولات الوساطة، ولا توسلات الجيران. وأصبحت الكرة الآن في ملعبي، والمواجهة الوحيدة معي.

أما حجتي في التوصيل فتستند على أمرين: الأول فني؛ حيث أكد المهندس "صلاح" مسئول المشروع أن منسوب الصرف طبيعي، وأن القياسات القبلية تؤكد على عدم حصول طفو أو غرق بتاتا، وأن ما يقول به البعض مغايرا لذلك؛ هو من قبيل الخيال الذي لا يستند على أدلة. الأمر الثاني: هو مفهوم العدالة؛ فليس معنى كون "عم نور" رجل فقير لا سند له أو ظهر، يجعل منه لقمة سائغة قابلة لسلب الحق وفرض السيطرة. وبناء عليه فقد صدَّرتُ للآخرين رسائل مباشرة وغير مباشرة مفادها أن التوصيل سوف يتم، وأن الموضوع لا ضرر منه على أحد البته.

ولكن على ما يبدوا أن ثباتي على موقفي، وإصراري على مد خط الصرف إلى نهاية الشارع الذي يسكنه عم نور، قد أغضب البعض، وأشعل في صدورهم نارا لا تنطفئ، إذ كيف لشاب لا عائلة له ولا جماعة أن يتحدى أولى القوة والعصبة والسند والظهر.

وصلتُ موقع الحفر، أخذ المعلم "رضا مظلوم" رئيس العمال يشرح لي كيف أن دبشة أسمنتية اعترضت طريقهم، وكيف أنهم حاولوا تفادي طريقها عن طريق الميل بزاوية الحفر قليلا، وتجنيبه المسار الخطي المستقيم. تمايلت قليلا، وأخذت أنظر إلى عمق البئر المحفور، وطبيعة المعوِّق الموجود، وبينما أنا على هذه الحالة من التوطية والانحناء؛ فوجئت بسيف يد قوية تخترق جنبي، فالتفتُّ بحركة انعكاسية لا إرادية فإذا براحة اليد الأخرى تصفعني على خديَّ الوارم فآلمتني، لم أستطع تفادي الضربة الخؤون، لكنني لم أتمالك نفسي فانتفضت غاضبا أمسك بخناق الضارب دفاعا وانتقاما. تحول الموقف إلى شجار، وتحول الحضور إلى وسطاء صلح، وتحولت كلمات الخصم إلى وعيد شديد اللهجة، وتحول ردي إلى تصميم بات وقاطع بالتوصيل.

بعد دقائق استطاع الحضور فك الموقف، واصطحاب الخصم إلى بيته، وإبعادي عن المكان.

أصرَّ العمال على مصاحبتي وتعليق العمل ردا على الإهانة التي تعرضوا لها في شخصي، فاضطررت للرجوع بهم، أحاول جاهدا تغيير موقفهم، وبعد شديد معاناه استجابوا لمعاودة العمل، ومواصلة الحفر.

بعدها تركت المكان وحِرت إلى أين أذهب، فقادتني قدماي إلى مسجد مولانا "الشيخ عبد الحميد سلام"، كنا صباحا، وكان المسجد خاليا، توضأت، وبالغت في غسل وجهي وغمر جسمي الساخن بالماء لأذهب لهيب غيظه، وفرط غضبه. دخلت المسجد أصلي الضحى، ولما وصلت إلى السجود، تذكرت ضعفي، وقلة حيلتي، وهواني على أهل بلدي، فانفجرت باكيا إلى حد النشيج، وشاكيا إلى حد التضرع. ولم أعرف كم من الوقت مر وأنا على هذه الحالة من البكاء والتضرع. كل الذي أعرفه أنني أفرغت شكواي، وأذهبت غضبي، ومسحت مرآتي، ولم يبق في النفس مما كانت تحمله غير بقايا ألم موجع خشية أن يعلم أبي بالخبر فتذهب نفسه على ولده الوحيد حسرة ومرارة.

انتصف النهار، وتأكدت أن العمال ومهندس الموقع قد تناولوا غدائهم، ثم رجعت إلى البيت وقت القيلولة. وبعد العصر حدث ما كنت أخشاه، فوجئت عند نزولي، بعم نور جالسا مع والدي يسترتضيه، وقد أخذته نوبة بكاء شديد، ويقسم بالأيْمان المغلظة بأنه سينال الثأئر من هذا الخصم، مهما كلفه ذلك من ثمن، حتى ولو شرِّد من البلد أو سُجن.

كان عم نور ضخم الجثة، طويل الجسم، وافر الخلقة، قوي البدن، مفتول الذراعين، لكن رغم قوته كثور فتاك؛ إلا أن له قلبا رهيفا كقط أليف. وبحكم أنه كان غريب عن قريتنا؛ فلم يكن له سند يحميه، أو ظهر يحتمي به، وربما كان ذلك سر تعاطفي معه، فوق أنه رجل طيب خلوق يستحق الحماية والتعاطف.

أقسم أبي أنه لن يسكت على هذه الإهانة، وأنه لابد من ردٍ بالغ القوة شديد الأثر؛ غير أن استعداد عم نور للتضحية بنفسه سكَّن بعض ألمه، وأذهب فوره غضبه، وبدلا من تأجيجه للموقف أصبح يتحكم في نفسه قليلا رأفة بهذا الشخص الذي أرسله الله أبي ليعوِّقه ويعطِّله عن القيام بما لا يُحمد عقباه.

وبينما يتهيأ أبي للخروج قبيل العشاء إذ بالباب يُطرق، كان الطارق هو ذلك الخصم، ومعه عدد من كبار رجال القرية وحكماؤها، جاء الرجل معتذرا يسترضيني وأبي، ويطلب العفو والصفح، وأن الموضوع جاء على غير هواه، ورغما عنه، وأن الشيطان أعمى بصره وأذهب حنكته. وأمام توسلات الناس واستعطافهم وافق أبي على العفو شريطة أن يتم التوصيل، وألا يمنع صاحب حق من حقه حتى ولو كان ذلك على حساب أنفسنا.


ads