بقلم فاطمة المزيني: كيف يخلد الأدب ذاكرة الشعوب؟

بقلم فاطمة المزيني: كيف يخلد الأدب ذاكرة الشعوب؟.. تقول الأسطورة الإفريقية: إنه في البدء لم تكن في الأرض حكايات، حتى تمكن عنكبوت حكيم من الصعود إلى السماء ليعود محمَّلًا بالحكايات، وبعدها يبدأ العالم وتتنوع المعرفة.
بقلم فاطمة المزيني: كيف يخلد الأدب ذاكرة الشعوب؟.. تختصر هذه الأسطورة علاقة الإنسان بالحكاية والدور الوجودي الذي نهض به الأدب ليكون لوحًا محفوظًا لذاكرة الشعوب.
ولنبدأ من التاريخ؛ إذ تتجلى الروايات كشهادات حية على التاريخ حين تغيب الوثائق الرسمية أو تُشوَّه أو يكتبها المنتصرون.
بقلم فاطمة المزيني: كيف يخلد الأدب ذاكرة الشعوب؟.. يبدأ من التوثيق المباشر للأحداث المصيرية، كما في (الحرب والسلام) لتولستوي التي تضمَّنت سردًا حيًّا لغزو نابليون لروسيا كما رآه الجنود والأرستقراطيون والفلاحون. وكما تحوَّلت (عائد إلى حيفا) أو ( ؤجال تحت الشمس ) لغسان كنفاني إلى وثيقة أدبية عن جراح النكبة الفلسطينية.
بقلم فاطمة المزيني: كيف يخلد الأدب ذاكرة الشعوب؟.. ثم لا يكتفي الأدب بالأحداث الكبرى، بل ينفذ إلى أعماق المجتمع ليكشف تناقضاته؛ فهذا ديكنز في (أوليفر تويست) يفضح وحشية الفقر في لندن الفيكتورية، وهذا نجيب محفوظ في (ثلاثيته) يصور القاهرة الشعبية بصراعاتها الطبقية وأحلامها المسحوقة.
بقلم فاطمة المزيني: كيف يخلد الأدب ذاكرة الشعوب؟.. في زوايا الأدب أيضًا تتجلى التحولات الفكرية كمرايا للصراع بين التراث والحداثة؛ هنا نرى (الحي اللاتيني) لسهيل إدريس وهو يجسد أزمة الهوية بين الشرق والغرب، بل ونرى الشعر الصوفي عند ابن عربي أو جلال الدين الرومي الذي كان ثورة روحانية على قيود العقل الجاف.
والأهم أن الأدب أيضًا كان المعبِّر عن الوجدان الجمعي بكل رهافته؛ فشعر محمود درويش كان يمثل نبض شعب يحلم بالحرية، كما كان شعر المتنبي شاهدًا على كبرياء الأمة العربية وفلسفتها ومجدها.
كما لا يغفل الأدب عن توثيق التفاصيل اليومية الهاربة من سجلات المؤرخين؛ فوصف جين أوستن الدقيق لحفلات الشاي والزواج في (كبرياء وهوى) يحفظ أنفاس العصر الإنجليزي، ومثله ما حفظه لنا الشعر الجاهلي من طقوس السمر حول النار.
الأدب أيضًا يخلد اللغات المحكية الحية بلهجاتها وأمثالها؛ فاللهجة المصرية في قصص يوسف إدريس، أو القصائد النبطية لدى شعوب الخليج، أو أغاني الزنج في الشعر العربي القديم، أو روايات السكان الأصليين في أمريكا، مثلت جميعها رشاقة الأدب بأشكاله في القفز على مفهوم الفناء.
وأخيرًا، عبقرية الأدب تكمن في قدرته على التنبؤ والتشريح النقدي؛ كما في (1984) لأورويل التي حملت نبوءة مرعبة عن الطغيان واستخدام السلطة أدواتَها لاستغلال الشعوب. كما نقرأ في (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح كشفًا مبكرًا عن شرخ الهوية في العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر.
هكذا يصبح الأدب كائنًا حيًّا من لحم ودم، يتسلل بين أحداث الحروب ليسمع القارئ همسات الثوار خلف القضبان، ويريه جوع الأمهات وصرخات الأطفال.
هكذا يبقى الأدب ذاكرة حية تحفظ للشعوب أحلامها الأولى وأنفاسها الأخيرة.