بقلم أصيل الجعيد: تقييم الملكية الفكرية
تقييم الملكية الفكرية لم يعد مسألة فنية محضة، بل تحول إلى أداة قرار تؤثر في مسار الاستحواذات والاندماجات وتمويل الشركات والترخيص وتسعير المنتجات وحسم النزاعات القضائية والامتثال الضريبي. الفكرة البسيطة هي تحويل الحق المعنوي براءة، علامة، برنامج، قاعدة بيانات، محتوى، سر تجاري إلى قيمة نقدية قابلة للدفاع أمام المدققين والمحاكم والمنظمين والمستثمرين. وللوصول إلى رقم معقول، يبدأ العمل بتحديد وحدة التقييم والحقوق الملازمة لها من حيث المدة والإقليم ونطاق الاستخدام وقابلية النقل والسيطرة، ثم التمييز بين العمر القانوني للأصل والعمر الاقتصادي الفعلي، فالأول تحدده الأنظمة والثاني تحكمه المنفعة في السوق وقد ينقضي قبل انتهاء الحماية. بعد ذلك يُصاغ سيناريو الاستخدام المرجّح: استغلال داخلي، ترخيص خارجي، بيع، أو حتى وقف استخدام المنافس، لأن كل سيناريو ينتج منحنى تدفقات نقدية مختلفًا. كما يجب فهم علاقة الأصل بغيره من الأصول المساندة معدات، رأس مال عامل، جهود تسويق، أصول بشرية إذ تعمل الملكية الفكرية غالباً كجزء من منظومة تُولد العائد بصورة مشتركة.
تتم الترجمة العملية لهذه المبادئ عبر ثلاثة مناهج رئيسية. منهج الدخل يقيس القيمة كصافي القيمة الحالية للتدفقات المنسوبة للأصل. أشهر تقنياته الإعفاء من الإتاوة الذي يجيب عن سؤال: كم كانت الشركة ستدفع لو اضطرت إلى الترخيص من طرف ثالث؟ يناسب هذا التقنية العلامات التجارية وحقوق المؤلف والبرمجيات حين تتوفر بيانات مبيعات موثوقة ومعدلات إتاوة مرجعية. تقنية الدخل الزائد متعدد الفترات تعزل الربح الإضافي لبراءة أو خوارزمية بعد تحميل عوائد عادلة على الأصول الداعمة، وهي مفيدة في التقنيات الأساسية ومنصات البرمجيات. أما تقسيم الأرباح فيخدم الحالات التي تتشارك فيها عدة أصول غير ملموسة إنشاء القيمة، كما في السلاسل العابرة للحدود. اختيار معدل الإتاوة ومعدل الخصم هنا حرج؛ الأول يستند إلى صفقات مماثلة وظروف الإقليم والحصرية ومجال الاستخدام، والثاني يعكس مخاطر التقنية والسوق والتنظيم والتقاضي ويُبنى غالبًا على WACC معدل بعلاوات خاصة بالأصل.
منهج السوق يعتمد المقارنات: صفقات بيع أو ترخيص مماثلة ومعدلات إتاوة منشورة ومرجعيات قضائية. قوته في بساطته وقابليته للتفسير، لكنه يصطدم بندرة الإفصاح وتفاوت الشروط، لذلك يستخدم غالبًا مع منهج آخر للتحقق. أما منهج التكلفة فيقدّم أرضية للقيمة من خلال تكلفة الاستبدال أو الإعادة مخصومًا منها التقادم الوظيفي والاقتصادي والتقني، وهو مفيد عند ضعف بيانات الدخل أو السوق، خصوصًا في البرمجيات الداخلية وقواعد البيانات والأسرار التجارية، لكنه لا يلتقط قوة العلامة أو الأثر السوقي وحده.
تُستكمل الصورة بإطار حوكمي ومعياري واضح: المعايير الدولية للتقييم للأصول غير الملموسة تضبط تعريف الغرض وأساس القيمة ووحدة القياس ومتطلبات الإفصاح؛ المعايير المحاسبية تنظم الاعتراف والقياس والاستهلاك في اندماجات الأعمال؛ معايير قياس قيمة العلامة التجارية توجّه تقدير إسهام العلامة في السعر والطلب؛ وأطر تسعير التحويل لمنظمات التعاون الاقتصادي تساعد على إسناد أرباح الأصول غير الملموسة داخل المجموعات وفق منطق التطوير والتعزيز والصيانة والحماية والاستغلال. على أرض الواقع، تعكس التجارب الدولية تنوع التطبيقات: شركات الأدوية تمزج بين الدخل الزائد وسيناريوهات نجاح وفشل سريري واحتمالات الموافقة؛ تراخيص الاتصالات المعيارية تتكئ على مزيج الإعفاء من الإتاوة وتقسيم الأرباح مع مراعاة التزامات FRAND؛ صفقات كتالوجات الموسيقى والأفلام تُسعَّر على ذيل طويل من التدفقات عبر منصات البث؛ وتقييم العلامات العالمية يعتمد نماذج تُفكك مساهمة العلامة في السعر والمرونة وتكلفة إعادة البناء.
عمليًا يبدأ المسار بتحديد الغرض وأساس القيمة، ثم حصر الأصل وحقوقه والنزاعات المحتملة، فجمع البيانات التشغيلية والمالية والسوقية: تاريخ المبيعات، الحصص السوقية، الأسعار، معدلات الاحتفاظ والاكتساب في نماذج الاشتراك، تكاليف البحث والتطوير والتسويق، عقود الترخيص السابقة، ودراسات القطاع. بعد اختيار المنهج المناسب للأصل والبيانات المتاحة، تُبنى النماذج بالتنبؤات المعقولة، والضرائب، والاستثمارات الضرورية، ومعدل الخصم، والعمر الاقتصادي، وقيمة نهائية عند الحاجة، ثم تُجرى اختبارات المعقولية عبر الحساسية لمفاتيح الفرضيات معدل الإتاوة، الخصم، النمو ومضاهاة بمنهج ثانٍ أو بمقارنات سوقية واقعية. ويُختم العمل بتقرير واضح يشرح الفرضيات ومنطق الاختيارات والقيود ومكامن المخاطر، ليكون الرقم قابلاً للدفاع.
ثمة أخطاء متكررة يجب تفاديها: الخلط بين العمر القانوني والاقتصادي، إهمال تحميل عوائد عادلة على الأصول الداعمة في نماذج الدخل الزائد بما ينفخ القيمة، استخدام معدلات إتاوة غير قابلة للمقارنة من قطاعات أو أقاليم مختلفة، تجاهل مخاطر الإنفاذ أو الإبطال في البراءات ومخاطر انتهاك الغير، وضعف التوثيق الضريبي داخل المجموعات العابرة للحدود. وفي السياق المحلي، حيث تتسارع مساهمة الأصول غير الملموسة في نمو الشركات والتحول الرقمي، تبرز الحاجة لقواعد تطبيقية متسقة مع المعايير الدولية وتراعي خصوصية القطاعات المحلية، حتى تصبح نتائج التقييم قابلة للاعتماد في التقارير المالية، ومُقنِعة للمستثمرين، وملائمة لاستراتيجيات الترخيص والتمويل. عندها فقط ينتقل التقييم من رقم في عرضٍ تقديمي إلى أداة قرار ترسم ملامح القيمة، وتؤطر المخاطر، وتفتح المجال أمام صفقات وتمويلات مبنية على أصولٍ غير مرئية ولكنها شديدة الأثر.