بقلم علي الشريمي: لماذا يتقاعد المعلمون مبكرا؟

قرأت قبل أيام تغريدة على منصة X لأحد الخبراء الاقتصاديين أشار فيها إلى أن موضوع التقاعد المبكر يتردد كثيرًا بين المعلمين، وطرح سؤالًا مباشرًا: هل هو خيار شخصي أو بسبب بيئة التعليم المؤسسية؟. هذا التساؤل لامس واقعًا حاضرًا في الساحة التعليمية، ودفعني إلى العودة إلى بيانات المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية وإحصاءاتها الرسمية حول التقاعد المبكر.
تكشف هذه البيانات أن التعليم يتصدر جميع القطاعات في أعداد المتقاعدين المبكرين. ففي عام 2021 بلغ عدد المتقاعدين في التعليم 153.989 من أصل 341.160 بنسبة %45، وبمتوسط عمر لا يتجاوز 52 عامًا. وفي عام 2022 ارتفع العدد إلى 165.726 من أصل 363.190 بنسبة %45.6 وبمتوسط العمر نفسه. أما في عام 2023 فقد وصل عدد المتقاعدين في التعليم إلى 175.537 من أصل 380.476 بنسبة %46.1 وبمتوسط عمر 53 عامًا. هذه الأرقام تعني أن ما يقارب نصف المتقاعدين في المملكة يأتون من سلك التعليم، وأن المعلمين يتقاعدون أبكر من غيرهم بما لا يقل عن خمس إلى سبع سنوات مقارنة ببقية القطاعات التي يتراوح متوسط عمر التقاعد فيها بين 56 و59 عامًا.
عند محاولة تفسير هذه الظاهرة، يظهر أن طبيعة العمل التعليمي وما يرافقه من ضغوط هي من أبرز العوامل. المعلم يقف يوميًا أمام فصول مزدحمة بالطلاب، ويواجه في الوقت ذاته مهامًا إدارية متزايدة، مثل إعداد التقارير ومتابعة المنصات التعليمية، ما يجعل سنوات الخدمة مثقلة بالجهد النفسي والبدني.
يضاف إلى ذلك محدودية الحوافز والامتيازات، إذ يعبّر كثير من المعلمين عن شعورهم بأن مهنتهم لم تعد محفزة كما ينبغي، وأن غياب التأمين الصحي يزيد من صعوبة الاستمرار. كما أن المساواة في نصاب الحصص بين المبتدئين وأصحاب الخبرة الطويلة تُعد نقطة ضعف بارزة، حيث لا يجد المعلم المتمرس فرقًا يراعي سنوات عطائه.
الأنظمة الإدارية بدورها تُعد من الأسباب المتكررة في شكاوى المعلمين. فالتأكيد على الانضباط عبر البصمة وساعات الحضور يُنظر إليه كعبء إضافي. المعلمون ينجزون مهامهم التعليمية داخل الحصص، ثم يُطلب منهم البقاء لساعات طويلة بعد انتهاء أعمالهم المباشرة. القضية ليست رفضًا للانضباط، بل إن كثيرًا من المعلمين، خاصة في المناطق البعيدة، يواجهون صعوبة حقيقية في قطع مسافات طويلة يوميًا للوصول إلى مدارسهم، ثم يُطلب منهم البقاء ساعات إضافية بلا مهام محددة، ما يضاعف من حجم المشقة ويؤثر على رضاهم الوظيفي.
العامل المجتمعي حاضر أيضًا في هذه المعادلة. فالكثير من المعلمين يعبّرون عن شعورهم بأن مكانتهم الاجتماعية لم تعد تعكس حجم ما يقدمونه من جهد يومي داخل الفصول. هذا الشعور بضعف التقدير يزيد من الإحساس بعدم الحافز على الاستمرار لفترة أطول، ويجعل خيار التقاعد المبكر أكثر حضورًا في أذهانهم متى ما توفرت لهم الإمكانية النظامية.
بالمقارنة مع تجارب دولية، نجد الفارق واضحا. ففي فنلندا يبلغ سن التقاعد النظامي للمعلمين حوالي 65 عامًا مع إمكانية الاستمرار حتى 68 أو 69 عامًا، بينما يبلغ متوسط التقاعد الفعلي 63.1 عامًا. وفي السويد يتراوح سن التقاعد بين 63 و69 عامًا، وسيرتفع الحد الأدنى إلى 64 عامًا ابتداءً من عام 2026. أما في النرويج فسن التقاعد النظامي 67 عامًا، مع خيار للتقاعد المبكر من سن 62 عبر نظام خاص. وفي بريطانيا يمكن للمعلم طلب معاش مخفض من سن 55، لكن الغالبية تستمر حتى 65 أو 66 عامًا. هذه المقارنات تعني أن المعلم السعودي يتقاعد أبكر من نظرائه عالميًا بما يقارب عشر سنوات.
الخلاصة أن تصدر التعليم لقوائم التقاعد المبكر في المملكة ليس مجرد خيار شخصي، بل نتيجة لمجموعة من العوامل المتراكبة التي تحدّ من الحافز على الاستمرار، ابتداءً من ضغط العمل وكثافة الفصول، مرورًا بالأنظمة الإدارية الصارمة، وصولًا إلى محدودية الحوافز والشعور بضعف التقدير المجتمعي. معالجة هذه الظاهرة تستدعي مراجعة شاملة لبيئة التعليم، تبدأ من تخفيف الأعباء داخل الفصول، وتحسين الحوافز والامتيازات، وزيادة المرونة في أنظمة الحضور، وانتهاءً بتعزيز مكانة المعلم الاجتماعية، حتى تتحول المهنة من بيئة غير محفزة إلى بيئة مشجعة على العطاء المستمر.