بقلم أنس الرشيد: موسيقى التوحيد

منذ كنا صغارًا ونحن نحفظ أغنيةَ محمد عبده الطربية في موسيقاها الداخلية والخارجية: «حدثينا يا روابي نجد/ يا جبال السراة. يا ينابيع الحسا/ جدّدي فينا الحياة. حدثينا عن أبو تركي العظيم/ عن أبونا الفارس الشهم الكريم/عن جهاد جدودنا/ اللي خلوا حدودنا/ من بحرها للبحر/ ديرتي كلي فخر».
وربما أنَّ الروابي والينابيع والجبال لا تنسى الإمام ابن سعود؛ لأنه ذكّر العربَ بأهم صفةٍ فيهم وهي التوحيد، فالعربي القديم - توحَّد وراء دعوة الإسلام - لأنه مهموم بالبحث عن الواحد وراء الكثرة، كما أنَّ حياة القبائل العربية كانت مرهونة بالحلف والعهد كتوحيد اجتماعي، وديوان العربي وتراثه يقوم على عمود الشِعر، الشِعر الذي ينزع إلى وحدة الوزن والقافية، وهي انعكاس للروح العربية نفسها التي ترغب في وحدة الشكل على الرغم من تنوع الصور والمعاني. إذن صفة التوحيد هي التي جعلت العربَ يتحلّقون حول الإمام ابن سعود ويقاتلون معه. وليس من الغريب أن يكون بعضُ أساتذةِ الصحوة السعوديين - الذين يدعون إلى أمميةِ إسلامية - يُقدّرون الملك عبدالعزيز تقديرًا لا يفهمه صحويّو الدول المجاورة؛ لأنَّ تقدير الملك عبدالعزيز ينبع من نفسٍ تعرف معنى التوحيد، المعنى الذي من دونه لن تقوم للعرب قائمة؛ ومن دونه كل الدعوة الإسلامية لا معنى لها.
من هذا التوحيد صنعتُ لي عادةً سنوية في يوم الثالث والعشرين من الشهر التاسع الشمسي، وهي أن أصنع طقسًا يليق بيومِ الأرض يومِ الجزيرة التي وحدها الإمام عبدالعزيز وجيشه، خلاصة هذا الطقس أن أخترع للتوحيد موسيقى، وليتَ أحد العطّارين السعوديين يخترع عطرًا برائحةِ التوحيد، وأظنُّ أنَّ القادر على هذا هو العطّار الفنان بدر الحرقان، الذي صنع لمنفوحة عطرًا ولعجوة المدينة عطرًا. وقد وضعتُ دفترًا خاصًا للتفكير بهذه الموسيقى، أُدوّن كل سنة ما يخطر في بالي عن كيف يكون للتوحيد موسيقى؟ وقد عرَّفتُها -أولا- بأنها التي تُحوِّل التنوّع إلى لحنٍ واحد: نغمة مركزيّة ثابتة تعمل كجاذبيةٍ موسيقية، تتجاور حولها طبقاتٌ مختلفة من الإيقاعات والزخارف، مع صمتٍ مُؤسِّس يعود إليه الجمع بين حينٍ وآخر. وشبّهتُ هذه الموسيقى بتاريخ الجزيرة وأفرادها؛ فلنتخيل مجتمع الجزيرة العربية المتنوع وهو منجذبٌ إلى قيمةٍ مركزية واحدة هي التوحيد، وهذه القيمة هي النغمة الثابتة، أما أفراد الجزيرة فمختلفون: موظف، مزارع، تاجر، شاعر،.. إلخ. هؤلاء هم الإيقاعات والزخارف، وجميعهم يعودون بين وقتٍ وآخر إلى ممارسة مشتركة (صلاة، عيد، صمت جماعي) تمثّل الصمتَ المؤسِّس. هذا يجعلهم واحدًا متعدّدًا، أي لا يفقدون اختلافهم، إنما يعملون كوحدة. وقد وضعتُ في الدفتر مبادئ تركيبية (سبع قواعد لبناء موسيقى التوحيد)، وخريطة دلالية (سيمياء الصوت)، إضافة إلى وضع خطة الطقس السنوي (المدة والأدوات، والبناء الدرامي، والجواب عن سؤال: كيف تُؤَلّف مقطوعة موسيقى التوحيد عمليًا؟) وأزعم أنه حين تكتمل المقطوعة الموسيقية أكون كأنني عزفتُ تاريخ الجزيرة، فالسلوك العربي هو قطعة موسيقية عظيمة تحتاج إلى أذن تُنصِت لها لتفهم ماهي نَوْتَتها؟، وقد كان المنصتُ لها هو الملك عبدالعزيز، حين ذكَّر العربَ بأصلهم التوحيدي فانطلقوا معه محاربين وكاتبين لتاريخ لا يُشبه تاريخ الدول الأخرى الذي روته الكتب التقليدية، إنما يُشبه عادات يومية صامتة عن الكتابة وصارخة بالمشافهة والفعل الذي يصوغ مصير الشعوب، ففي جزيرة العرب تكوّن عبر القرون سلوكٌ جماعي غير معلن، أشبه بإيقاعٍ خفي يحكم الحياة.
هذا السلوك هو التوحيد كطريقةِ عيش تتكرر في تفاصيل اليوم، مثل الصلاة التي يتَّحد فيها الإمام والمأموم بإيقاع جماعي واحد، التوحيد هنا ليس فكرة تُفرض من الأعلى، ولا شعارًا يُرفع في الساحات السياسية، إنه قناعة داخلية بأنَّ العالم – على الرغم من تشظيه – يُمكن جمعه في إيقاع واحد هادئ.
هذه القناعة تعمل كهندسة خفية تُعيد ترتيب العلاقات والقرارات والانفعالات بحيث تتناغم معًا من غير حاجة إلى خطباء أو زعماء، بل بدافع من غريزة ثقافية عميقة.
ولبيان بعض مرامي هذه الهندسة التوحيدية في قلب أبناء الجزيرة لنتذكَّر أنَّ بعضَ المناطق المحيطة بالسعودية قد انشغلت بالانقلابات والشعارات الثورية في صورةٍ تُوضّح معنى أن يكون الإنسان ربيب الاستعمار، بينما كانت جزيرةُ العرب ترسم خارطتها بطريقةِ الانتظام الداخلي (التوحيد) أي أنَّ الإنسان العربي إذا رأى نفسه حاكمًا ومحكومًا في آنٍ واحد، فإنه يشعر بالتوحيد الموسيقي في دواخل نفسه؛ لأنَّ طبيعةَ الحكم العربي القديم -الممتد في الجزيرة- طبيعةٌ متّحدة مع سلوك العرب ومنطِقهم العملي والفكري، ولم يتسق للعرب في كل أزمانهم الماضية إلا حكم التوحيد، وهنا أتذكر بيتًا في إحدى أغاني محمد عبده يقول: «حكامنا من شعبنا/ هذا أخ وهذا ابن عم»، وكأنَّ هذا البيت لمس جوهرًا سلوكيًا عند العرب، وهو أن يكون حكمهم ينبع من موسيقى أرضهم النفسية، لهذا لم يكن السعودي يستجيب للشعارات المهترئة أيام 2011 لأنَّ المطالبَ من خارج تاريخه السلوكي التوحيدي، اللحن الواحد الذي يُعزف بآلات متعددة.