بقلم فاطمة المتحمي: بين القرار والفعل: رحلة الإنسان نحو ذاته

في لحظات كثيرة من حياتنا نظن أن الصعوبة تكمن في اتخاذ القرار، فنقضي الأيام أو حتى السنوات نُثقل عقولنا بمفترق الطرق: هل أبدأ أم أنتظر؟ هل أواجه أم أستسلم؟ هل أذهب أم أبقى؟ لكن حين نتأمل بعمق، نكتشف أن أصعب ما في الرحلة ليس لحظة القرار نفسها، بل تلك المسافة الغامضة بين القرار والفعل. المسافة التي تبدو قصيرة منطقيا، لكنها في الحقيقة قد تكون الأبعد والأثقل، لأنها محكومة بطبيعة النفس البشرية وصراعاتها الداخلية.
ومن واقع تأملي الشخصي، وصلت إلى قناعة واضحة: القرار لا يشكل سوى أقل من 10 % من التغيير، بينما الفعل هو الذي يحمل الوزن الأكبر، أكثر من 90 % من التأثير الذي يعيد تشكيل مسار حياتنا. القرار مهم لأنه الشرارة الأولى، لكنه يبقى مجرد شرارة إن لم تتحول إلى نار تضيء وتدفئ، وتدفعنا للحركة.
خلال تفكيري بهذا الأمر شاهدت مقطع فيديو يروي قصة رمزية بسيطة. يحكي الراوي أن معلما سأل طلابه: هناك سبعة عصافير تقف على غصن شجرة، خمسة منها قررت أن تطير، كم بقي على الغصن؟ أجاب معظم الطلاب أن اثنين فقط سيبقان، لكن أحد الطلاب قال: «بقي سبعة»، ثم أوضح: «لقد قرر خمسة أن يطيروا، لكنهم لم يطيروا فعلا».
هذه القصة على بساطتها تختصر الفارق الجوهري بين القرار والفعل. القرار فكرة داخلية، نية معلنة أو غير معلنة، بينما الفعل حركة خارجية ملموسة تغيّر الواقع. كم مرة قررنا أن نبدأ عادة جديدة، أن نغيّر من أنفسنا، أن نطرق باب فرصة جديدة، ثم توقفنا عند لحظة القرار، ولم نتحرك خطوة واحدة؟ القرارات تمنحنا شعورا مؤقتا بالإنجاز، لكنها بلا أثر حقيقي ما لم تتحول إلى فعل.
القرار في جوهره هو إعلان للنيات، ومهما كان قويا، فإنه لا يغير شيئا في العالم الخارجي. إنه أشبه بوضع اليد على مقبض الباب دون أن ندفعه ليفتح. كثيرون يقفون عند العتبة وهم يظنون أنهم تحركوا لمجرد أنهم «قرروا»، بينما العالم حولهم يظل ساكنا كما هو. هنا يظهر الخداع النفسي: نشعر بالإنجاز لمجرد أننا أتخذنا قرارا، وكأن العقل يكافئنا عاطفيا قبل أن نتحرك خطوة واحدة، فيغمرنا شعور زائف بالتحقق.
الفلاسفة والباحثون في علم النفس لطالما ناقشوا هذه الهوة بين الإرادة والفعل. شوبنهاور تحدث عن «إرادة الحياة» التي تدفعنا للرغبة دون نهاية، بينما نيتشه ذهب أبعد حين ربط الفعل بـ«إرادة القوة»، معتبرا أن القيمة الحقيقية للإنسان ليست فيما يرغب فيه أو يخطط له، بل فيما يُترجمه على أرض الواقع. أما في التحليل النفسي، فيمكن القول إن «الأنا» كثيرا ما تتواطأ مع الرغبات لتنتج قرارات جميلة على الورق، لكن «الأنا العليا» تضع أمامنا قيودا، والخوف من الفشل يزرع فينا مقاومة خفية تمنع القرار من التحول إلى فعل.
والسؤال الذي يفرض نفسه: لماذا نتردد بين القرار والفعل؟
لعل السبب يكمن في أننا نخشى أن يفقد القرار وهجه فور أن نصطدم بالواقع. القرار نظريا مثالي، يحمل في داخله صورة متخيلة لذواتنا الأفضل، لكن الفعل يضع هذه الصورة على المحك. من يقرر أن يبدأ الرياضة مثلا يتخيل نفسه أكثر صحة وقوة، لكن أول صباح بارد قد يُسقط هذه الصورة في مواجهة الكسل والتعب. هنا يتضح أن القرارات سهلة، لأنها تعيش في الخيال، بينما الأفعال صعبة، لأنها تُختبر في الواقع.
الحياة إذن ليست حصيلة قرارات بقدر ما هي حصيلة أفعال. إننا لا نُعرف بعدد الطرق التي فكرنا أن نسلكها، بل بعدد الخطوات التي وطأت أقدامنا أرضها فعلا. من يقرر ألف مرة أن يتغير يظل كما هو، بينما من قرر مرة واحدة ونفذ قد قلب حياته رأسا على عقب.
لذلك، يمكن القول إن القرار هو «النية»، والفعل هو «التحقق». النية تمنحنا أملا واحتمالا، لكن الفعل وحده يحوّل الاحتمال إلى واقع. وبين هذين المستويين يعيش الإنسان صراعه الأبدي: هل يظل أسير عالم النيات حيث كل شيء ممكن؟ أم يعبر الجسر نحو الأفعال حيث كل شيء يُختبر ويُحاسب؟
وربما هذا هو جوهر الحكمة التي تلخصها القصة الرمزية للعصافير السبعة. فحتى لو قرر خمسة منها أن تطير، سيظل الغصن مزدحما بها ما لم تجرؤ على فتح أجنحتها. إن الحياة لا تُقاس بالقرارات التي تعلّق على الأغصان، بل بالتحليق الفعلي في السماء.
وفي الختام وجوهر الأمر، لا يُعرّف الإنسان بما أراد أن يكون، ولا بما خطط أو قرر في ذهنه، بل بما تجسّد فعلا في عالم الواقع. القرارات تبقى ظلالا للأفكار، لا تتحقق إلا حين يُضاء طريقها بنور الفعل. بين عالم الاحتمال وعالم الوجود يقف الإنسان، يتأرجح بين ما يتمنى وما يجرؤ على إنجازه.
وربما تكمن الحكمة في إدراك أن الحياة ليست وعدا بالاحتمالات، بل اختبار للأفعال، وأن قيمة اللحظة لا تكمن فيما نفكر فيه، بل فيما نفعله فعلا. عندها فقط نتجاوز وهم الاختيار، ونعبر من الغصن المزدحم بالنيات إلى فضاء التحليق الحر.