بقلم هادي اليامي: المحتوى الرقمي بين حرية التعبير وحدود المسؤولية

بقلم هادي اليامي: المحتوى الرقمي بين حرية التعبير وحدود المسؤولية.. يشهد العالم اليوم انفجارًا رقميًا غير مسبوق، جعل من المنصات الاجتماعية فضاءً مفتوحًا للتعبير والتفاعل والتأثير. وقد صاحب هذا التحول تحديات قانونية وحقوقية متزايدة، خاصة في ظل غموض الحدود الفاصلة بين حرية التعبير من جهة، وممارسات قد تُعد تعديًا على النظام العام أو حقوق الآخرين من جهة أخرى.
بقلم هادي اليامي: المحتوى الرقمي بين حرية التعبير وحدود المسؤولية.. وتبرز المملكة العربية السعودية كنموذج لدولة وعت مبكرًا خطورة المحتوى الرقمي غير المنضبط، فسعت إلى سن أنظمة وتشريعات تحقق التوازن بين صون الحريات، والحفاظ على السلم المجتمعي، وحماية الكرامة الإنسانية.
بقلم هادي اليامي: المحتوى الرقمي بين حرية التعبير وحدود المسؤولية.. وضعت المملكة منظومة قانونية متكاملة للتعامل مع المحتوى المنشور عبر الفضاء الرقمي، في إطار تحول تشريعي شامل تقوده السلطة التنظيمية المشتركة بين مجلس الوزراء من جهة، ومجلس الشورى من جهة أخرى. وأسهم هذا التعاون المؤسسي في إنتاج بيئة تنظيمية متطورة تواكب التحديات الرقمية، وتوازن بين صون حرية التعبير وضبط السلوك الرقمي بما يحفظ الأمن المجتمعي. ومن أبرز ما أثمر عنه هذا التحول التشريعي صدور عدد من الأنظمة المحورية، من بينها:
- نظام مكافحة جرائم المعلوماتية، الذي يُعد حجر الأساس في ملاحقة الأفعال الجُرمية الرقمية، مثل التشهير، واختراق الخصوصية، ونشر المواد غير النظامية، والتحريض على الكراهية أو العنف.
- نظام مكافحة التحرش، والذي شمل في نطاق تطبيقه الأفعال المرتكبة عبر الوسائط الرقمية، مؤكدًا على شمول الحماية القانونية لكل البيئات، الواقعية والافتراضية على حد سواء.
- نظام حماية البيانات الشخصية، الذي جاء لترسيخ مفاهيم الخصوصية الرقمية، ووضع ضوابط واضحة على جمع البيانات الشخصية واستخدامها ونقلها، بما يتماشى مع المعايير الدولية.
- نظام الإعلام المرئي والمسموع، الذي أعاد تعريف مهنة الإعلام لتشمل المؤثرين وصنّاع المحتوى، وفرض التزامات تنظيمية على ممارسي النشر الرقمي، سواء كانوا أفرادًا أو جهات.
بقلم هادي اليامي: المحتوى الرقمي بين حرية التعبير وحدود المسؤولية.. تنظيم مجلس المحتوى الرقمي لعام 1443، والذي يهدف إلى تطوير وتنمية المحتوى الرقمي، وتنسيق الجهود لتحسين البيئة التشريعية ودراسة المعوقات والتحديات، واقتراح السياسات والحلول اللازمة لتطويره، ومتابعة تنفيذها. ويأتي هذا التنظيم امتدادا لجهود المملكة في تقنين المحتوى الرقمي بداية من اللجنة الوطنية لتقنين المحتوى الأخلاقي لتقنية المعلومات لعام 1435هـ، والتي تم إلغاؤها بموجب هذا التنظيم.
بقلم هادي اليامي: المحتوى الرقمي بين حرية التعبير وحدود المسؤولية.. وجاءت تلك الجهود امتدادًا لما نص عليه النظام الأساسي للحكم في المملكة في مادته 39 على أن وسائل الإعلام تُعبّر بالكلمة الطيبة وتُسهم في تثقيف الأمة، وتحظر ما يؤدي إلى الفتنة والانقسام أو ما يمس أمن الدولة. وبالتالي، فإن حرية التعبير مكفولة بما لا يخل بالثوابت والقيم الدينية والنظام العام. ويُعد الفارق بين النقد المشروع والإساءة المقنّعة من أهم ما يجب توضيحه، خاصة في ظل انتشار مقاطع أو منشورات تُقدَّم وكأنها تعبير عن رأي، بينما تحمل في طياتها تحريضًا أو إساءة مغلّفة.
وتُجرّم هذه الأنظمة أفعالًا تشمل الإساءة إلى الرموز الوطنية أو الدينية، نشر الشائعات أو المعلومات الكاذبة، انتهاك الخصوصية، أو بث محتوى يتضمن تمييزًا أو تحريضًا أو تهديدًا للسلم الاجتماعي.
كما امتد نطاق تطبيق هذه الأنظمة ليشمل ما يُنشر عبر المنصات الرقمية، بما في ذلك ما يُعد «نشرًا علنيًا»، وهو ما يجعل كل مستخدم مسؤولًا قانونيًا عن محتواه، بغض النظر عن صيغته أو نواياه. إن هذا التكامل بين الجهدين التنفيذي والتشريعي يعكس وعي الدولة بأهمية ضبط الفضاء الرقمي كجزء لا يتجزأ من الفضاء العام، ويُجسّد التزامها بتوفير بيئة رقمية آمنة تحترم الحقوق وتحفظ النظام.
ومع صعود دور الأفراد كصُنّاع محتوى، لم تعد المنصات مجرد وسائط تواصل، بل تحولت إلى منصات إعلامية مؤثرة في الرأي العام. وبات ما يُنشر فيها يخضع للمساءلة القانونية، كما أن مسؤولية المنصات نفسها تتعاظم في ما يتعلق بالتبليغ عن المخالفات أو إزالة المحتوى المخالف. كما أصبح من الضروري إخضاع مشاهير المنصات - من يوتيوبر وسنابيين وتيك توكرز - لضوابط قانونية باعتبارهم مؤثرين يمارسون نشاطًا عامًا له آثار قانونية.
ورغم تطور البيئة التشريعية، إلا أن ضبط المحتوى الرقمي لا يخلو من إشكاليات، منها صعوبة تتبع الحسابات الوهمية، أو إثبات النية الجرمية في بعض الحالات كالتحريف أو التلاعب بالمحتوى. كما يُشكل استخدام القُصّر في محتويات مثيرة للجدل تحديًا أخلاقيًا وقانونيًا، خصوصًا إذا ارتبط المحتوى بالتحريض أو الإضرار النفسي. وتبقى الفجوة بين النشر العفوي والمسؤولية القانونية قائمة، ما يفرض ضرورة رفع الوعي العام بالمسؤولية الرقمية.
ويشهد القضاء السعودي تطورًا ملحوظًا في معالجة قضايا المحتوى الرقمي، عبر اجتهادات قضائية تتماشى مع خصوصية العصر الرقمي. وقد صدرت أحكام عديدة تتراوح بين الغرامة، والمنع المؤقت، والتعويض المدني، بل وفرض الاعتذار العلني في بعض الحالات. كما بات المتضررون يتجهون إلى المسار المدني للمطالبة بالتعويض عن الضرر المعنوي، ما يعكس وعيًا متزايدًا بحقوقهم في البيئة الرقمية.
ومن أبرز ما يمكن اقتراحه لتعزيز الحوكمة الرقمية:
1) إطلاق برامج توعية قانونية تستهدف المستخدمين وصُنّاع المحتوى.
2) تطوير آليات الذكاء الاصطناعي لرصد المحتوى الضار تلقائيًا.
3) إدراج قواعد أخلاقيات النشر ضمن المناهج التعليمية والتدريب الإعلامي.
4) تعزيز قدرات الجهات الأمنية والقضائية المختصة بالتحقيق الرقمي.
إن مواجهة التحديات المرتبطة بالمحتوى الرقمي تتطلب توازنًا دقيقًا بين احترام حرية التعبير، وحماية المجتمع من الإساءة والانتهاك. والمملكة - من خلال تشريعاتها وممارساتها - تقدم نموذجًا متقدمًا في التعامل مع هذه المعادلة، بما يعزز الأمن الرقمي، ويحترم الحقوق، ويضع أسسًا راسخة لبيئة رقمية آمنة ومسؤولة. ويبقى على الجميع - أفرادًا ومؤسسات - أن يدركوا أن النشر مسؤولية، وأن العالم الرقمي ليس خارج نطاق القانون.