بقلم عبدالله المليباري: بيئات العمل الصحية أساس الاستدامة والإنتاج

في أحد اللقاءات العائلية الدورية دار نقاش عفوي حول ضغوطات العمل في عصرنا الحالي ومقارنتها بالوضع في الماضي. تبادل الحضور آراءهم حول تزايد وتيرة الحياة اليومية وصعوبة التوفيق بين الالتزامات المهنية والشخصية. عندما سرد أحد الحاضرين قصة أثارت انتباه الجميع. قال: «دخلت مكتبي في أحد الأيام وأنا أشعر بثقل غريب في جسدي وإرهاق شديد، رغم أنني نمت ثماني ساعات متصلة. لم يكن هناك سبب ظاهر لكني شعرت بأنني لا أستطيع الاستمرار على هذا النحو فاضطررت لأخذ إجازة قصيرة لزيارة الطبيب».
بعد إجراء الفحوصات أخبره الطبيب أن حالته لا تعود إلى مرض عضوي محدد، بل إلى نمط حياته اليومي. طبيعة عمله المكتبي، ساعات الجلوس الطويلة والضغط النفسي المستمر، كلها عوامل تراكمت وأثرت في جسده وصحته العامة وربما بدأ في دخول مرحلة «الاحتراق الوظيفي». لم يكن الحل دواء أو راحة مؤقتة، بل تغيير في أسلوب الحياة داخل بيئة العمل نفسها.
القصة - وإن بدت فردية - هي انعكاس لحالة عامة تتكرر بصمت بين الكثير من الموظفين في بيئات العمل الحديثة. في السعودية، يعيش آلاف من الموظفين ظروفًا مشابهة. تشير الإحصاءات إلى أن نحو %40 من البالغين يعانون من السمنة، وأن أكثر من %70 لديهم زيادة في الوزن، وبالطبع هذه النسب العالية ليست فقط ذات مدلولات صحية، بل لها تبعات اقتصادية واجتماعية مباشرة.
دراسة نشرت في East Mediterranean Health Journal أشارت إلى أن الأمراض غير السارية (مثل السكري وأمراض القلب والسمنة) تكلف السعودية أكثر من 11.8 مليار دولار أي ما يعادل %13.6 من إجمالي الإنفاق الصحي، بينما تكاليف الإنتاجية المفقودة نتيجة غياب الموظفين بسبب المرض ربما تتجاوز %4 من إجمالي الناتج المحلي. هذه الخسائر الاقتصادية يمكن رد أسبابها إلى فقدان الإنتاجية المتزايد والإجازات المرضية الكثيرة وضعف ولاء الموظفين، نظرًا لبيئات العمل السلبية. بينما تقديرات صادرة عن غرفة التجارة الأمريكية تشير إلى أن تأثير الغياب المتكرر والتقاعد المبكر نتيجة المرض في السعودية قد يبلغ %9.7 من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2030 إن لم يتدارك الوضع.
ورغم أن هذه الأرقام مثيرة للقلق فإن الحلول ليست - بالضرورة - مكلفة أو معقدة، بل قد تبدأ بخطوات بسيطة، كتشجيع الموظفين على الحركة، منح فترات استراحة قصيرة منتظمة، تنظيم نشاطات جماعية خفيفة، إتاحة استشارات نفسية وتوفير بيئة داعمة رحيمة، تراعي الضغوط الذهنية التي من الممكن أن يتعرض لها الموظفون. إذ توضح دراسات عالمية متعددة أن استثمار كل دولار في برامج تعزيز الصحة داخل بيئة العمل، يمكن أن يؤدي إلى توفير ما يتراوح بين 3 إلى 6 دولارات، بحسب جودة البرنامج والفئة المستهدفة. وأظهرت دراسة منشورة في مجلة Health Affairs أن متوسط العائد على الاستثمار (ROI) لمثل هذه البرامج بلغ حوالي 4 دولارات لتكاليف الرعاية الصحية، وحوالي 3 دولارات لتقليل الغياب عن العمل، أي ما مجموعه 7 دولارات لكل دولار يتم استثماره. هذه المكاسب لا تقتصر على الأرقام فقط، بل تشمل زيادة الإنتاجية، ورفع معنويات الموظفين، وتحسين ولائهم للمؤسسة.
مثلما أدرك صاحب القصة أن نمط العمل كان يؤذي صحته، يجب كذلك على المؤسسات إدراك أن بيئة العمل الصحية ليست ترفًا ولا خيارًا ثانويًا، بل ضرورة إستراتيجية. فالموظف السليم أكثر ولاءً وأعلى إنتاجية وأقل استهلاكًا للموارد الصحية. وعلى نطاق أوسع فإن تحسين بيئة العمل هو استثمار في صحة المجتمع، وفي استدامة الاقتصاد، وفي مستقبل وطن يعول على موارده البشرية لتحقيق رؤيته الطموحة. وقد لخص سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان هذا التوجه بقوله: «المواطن السعودي هو أعظم ما تملكه المملكة للنجاح» هذه ليست مجرد عبارة، بل بوصلة تؤكد أن بناء الإنسان هو حجر الزاوية في كل تقدم نطمح إليه. فمستقبل المملكة لا يبنى فقط على الثروات الطبيعية أو المنشآت الضخمة، بل على إنسان يتمتع بصحة جسدية ونفسية، تؤهله للعطاء والإبداع والقيادة في عالم متغير.
قصة ذلك الرجل في لقائنا العائلي ليست إلا مرآة لصوت داخلي نشعر به جميعًا، أحيانًا في الإرهاق الصامت وأحيانًا في التأجيل المستمر للعناية بأنفسنا.