رئيس مجلس الأدارة
خالد جودة
رئيس التحرير
هند أبو ضيف
هير نيوز هير نيوز
رئيس مجلس الأدارة
خالد جودة
رئيس التحرير
هند أبو ضيف

بقلم صفوق الشمري: معرض أم استعراض

هير نيوز

تقول الكاتبة التشيلية إيزابيل الليندي: «العجرفة امتياز الجهلة، فالعالِم متواضع لأنه يدرك مدى ضآلة ما يعرفه».

تذكّرت هذه المقولة وأنا أحضر معرض الصحة العالمي مؤخرًا في الرياض، حيث كان الأمل يملأني بأن أرى حدثًا دوليًا يعكس ما بلغته المملكة من تطورٍ في القطاع الصحي، وما وصلت إليه من مكانة في تنظيم الفعاليات الكبرى فقد أصبحت المملكة مقصدًا ومكانًا للمعارض والمناسبات والفعاليات العالمية، ونجحت في تنظيمها واستقطابها نجاحًا باهرًا في كل المجالات، غير أنّ ما شاهدته من بعض المظاهر في معرض الصحة العالمي هناك جعلني أتساءل: هل نحن أمام معرض للصحة أم استعراض للمكانة للشخصية والمظاهر؟

كنت أتطلع إلى أن أرى في هذا الحدث قيم الطب الحقيقية «التواضع، الإنصات، التعاطف والمسؤولية، والعلم في أسمى معانيه»، إلا أن المشهد في بعض أركان المعرض كان مختلفًا تمامًا، مشاهد لا تمتّ إلى جوهر الصحة والطب ولا إلى تاريخه بصلة. رأيت بعض مسؤولي القطاع الصحي أحاطوا أنفسهم بما يشبه الحاشية، وفود تمتد لأمتار طويلة ترافقهم من جناح إلى آخر، وكأننا في عرض بروتوكولي لا مؤتمر صحي علمي. تساءلت حينها: عن سبب الحضور الكثيف من «المرافقين» وما هدفه ؟! أم هو مجرد وسيلة لبيان المكانة ولفت الأنظار؟

المفارقة أنّ هذا المشهد لا يُرى حتى في المؤتمرات الدولية حتى ذات الطابع الحساس والطابع الأمني أو العسكري، حيث يحضر كبار القادة والمسؤولين بأقل مظاهر المرافقة والتكلف. بينما هنا، في معرض يفترض أنه مكرّس للعلم والصحة، بدا وكأن هناك مسابقة غير معلنة حول مَن يمتلك الحاشية الأكبر أو من يأخذ أكبر عدد من المصورين والصور!

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل لفت انتباه الغالبية الكم الهائل من بطاقات «VIP» الموزعة في المعرض. هذه البطاقات التي تُخصّص عادة لأصحاب المعالي وقادة القطاعات، أصبحت في هذا الحدث تُمنح بسخاء حتى لموظفين في مناصب متوسطة أو اعتيادية. بدا الأمر وكأن هناك سياسة «VVIP لك ولمن يعز عليك»، حتى غدت البطاقة التي يُفترض أن تعني تميّز المسؤولية والموقع أشبه ببطاقة تذكارية توزع بلا معايير. لا نعرف ماذا يقصد المنظمون؟ ولكن كان عدد بطاقات «VVIP» يفوق – كما قال البعض مازحًا – ربما عدد البطاقات الممنوحة في مؤتمر مبادرة الاستثمار (FII) الذي يحضره رؤساء الدول ووزراء العالم!

وبين أروقة المعرض، كنت أسمع التساؤلات تتردد: ما المناسبة؟ ولماذا كل هذا «الترزز»؟ خصوصًا في ظل وجود ضيوف أجانب من خبراء وشركات عالمية، وربما أنهم تساءلوا في داخلهم: ما الذي يحدث هنا؟ أهو معرض صحي علمي، أم مناسبة اجتماعية بلباس صحي؟

المجال الصحي، بطبيعته ورسالة ممارسيه يقوم على مبدأ المساواة والعدالة والتواضع والتعاطف، لا على تمييز الناس بين «مهم» و«أهم» و«عادي». فالقيمة في الطب ليست في المنصب، بل في العطاء والمعرفة والرحمة. وإذا كان لا بد من تمييز، فليكن لأصحاب القرار والسياسات العليا الذين يمثلون الدولة والقطاع في محافلها الرسمية. أما أن يتحول المعرض إلى مساحة للتنافس في عدد المرافقين أو البطاقات المميزة، فهذا يشوّه صورة الصحة والطب والرسالة التي يحملها.

لقد كنا نقول دومًا إنّ الذكاء الاصطناعي لن يستطيع أن يحلّ محل الطبيب، لأنه يفتقر إلى التعاطف الإنساني. لكن المفارقة المؤلمة أننا بدأنا نرى بعض منسوبي القطاع الصحي يفقدون تلك القيم التي لطالما ميّزت المهنة، منشغلين بالمظاهر أكثر من الجوهر، وبالاستعراض أكثر من الفعل.

لقد رأيت في المعرض بعض الشخصيات تتجول وسط الحشود كما لو كانت في «جولة إعلامية»، يتبعها مصوّرون من كل اتجاه لالتقاط صور الزيارة، وكأننا أمام أحد مشاهير التواصل الاجتماعي، أو يشبه الفاشينستات لا أمام رموز مهنة سامية كالصحة والطب.

يقول الرئيس الأمريكي دونالد ترمب جملة لافتة في بساطتها وعمقها: «إذا أردت أن أعرف جودة مطعم، أنظر فقط إلى نظافة زجاجه الخارجي؛ فإن كان نظيفًا، أطمئن إلى أن ما في الداخل كذلك».

هذا التشبيه البسيط يختصر فلسفة دقيقة: المظهر الخارجي يعكس غالبًا ما في الداخل من قيم وسلوكيات.

حين تتأمل بعض مظاهر الغرور والانتفاخ المبالغ فيه في بعض أوساط بعض رجالات الصحة، تدرك أن ما تراه ليس مجرد تصرفات شكلية، بل انعكاسٌ مباشرٌ لطريقة تفكيرٍ داخلية قد يعكس في التعامل مع المرضى ومع جوهر المهنة نفسها. فالصحة، في أصلها، مهنة إنسانية نبيلة، تُبنى على التواضع والتعاطف والشعور بالمسؤولية، لا على الاستعراض والمظاهر والتمييز الطبقي داخل القطاع.

كنا قد كتبنا سابقًا مقالًا أخذ زخمًا بعنوان «المستشفيات الذكية والديناصورات»، وأظن اليوم أن العنوان الأدق ربما كان «المستشفيات الذكية والديناصورات المنفوخة». فالمشكلة لم تعد فقط في الجمود الإداري أو الفكر المتحجر، بل في تضخم الأنا الذي أصاب بعض القيادات الصحية ممن التصقوا بمناصبهم سنوات طويلة حتى فقدوا حسّ التجديد وتجرّدوا من التواضع المهني. إنها ظاهرة يمكن وصفها بما يسميه علماء الإدارة بـ«متلازمة البرج العاجي»؛ حين يعزل المسؤول نفسه عن الميدان ويعيش في عالم من الامتيازات والحاشيات والمظاهر. ولعل ما يزيد الأمر وضوحًا أن هذه الحالة من تضخم الذات تنعكس بشكل مباشر على طريقة اتخاذ القرار، وعلى طبيعة الخدمات الصحية نفسها. فكيف ننتظر من مسؤولٍ غارقٍ في الأضواء والكاميرات، يتجول في المعارض بصحبة حاشية تمتد لأمتار طويلة، أن يشعر بإنسان بسيط يقف في طابور الطوارئ منتظرًا علاجًا أو عناية؟

في مقالات مثل «المستشفيات الذكية والديناصورات» و«هل تتحسن الخدمات الصحية في وجود هؤلاء؟» يظهر أن التغيير الحقيقي في منظومة الصحة لا يمكن أن يتحقق إلا عبر تجديد الدماء وإعادة ضخ الكفاءات الشابة التي تحمل فكرًا جديدًا متصلًا بالتقنية والعصر، لا بالمظاهر والمجاملات ومع التجديد المؤسسي، يجب أن تأتي الثورة التقنية التي يمثلها إدخال الذكاء الاصطناعي ومنظومة المستشفيات الذكية في إدارة وتشغيل القطاع الصحي. فالتقنية ليست مجرد أدوات، بل فلسفة جديدة لإدارة الصحة تقوم على البيانات والشفافية والكفاءة. إدخال الذكاء الاصطناعي سيسهم في تقليل الأخطاء الطبية، ورفع جودة الرعاية، وتحسين كفاءة الإنفاق، وتقليص الهدر المالي، وصولًا إلى تحقيق عدالة صحية أكثر استدامة.

وكنت أتمنى لو أن شركة مثل «هيوماين» (Humain)، بقيادة رئيسها التنفيذي طارق أمين، أولت قطاع الصحة أولوية حقيقية ضمن مشاريعها، لأن فرص النجاح فيه كبيرة ومباشرة، كما يُقال في عالم الاستثمار «low-hanging fruit». فبين ضخامة الميزانية المخصصة للصحة في المملكة، ووجود مساحات كبيرة من الهدر وعدم الكفاءة في أداء بعض الإدارات، تبدو الفرصة مثالية لأن يكون الذكاء الاصطناعي هو مغير قواعد اللعبة – The Game Changer.

لكن يبدو أن أولويات «هيوماين» اتجهت حاليًا نحو بناء مراكز البيانات ومشاريع البنية التحتية الرقمية، وهو أمر مهم بلا شك، إلا أن جوهر التحدي (لا يكمن في الوقت والانشغال ولكن ترتيب الأولويات!؟)

ورغم ما يُكدّر الصفو أحيانًا من مظاهر «الترزز والهياط» التي ابتعدت عن جوهر الرسالة السامية للطب والصحة، فإننا نحاول دائمًا أن نبحث عن الإيجابيات ونُسلّط الضوء على ما يُثلج الصدر ويبعث على الأمل.

في معرض الصحة الأخير، برزت صورة مشرقة تستحق الوقوف عندها: تنوّع ضخم في المشاركات، عدد هائل من الشركات من مختلف أنحاء العالم، وكل ذلك ما كان ليحدث لولا الرؤية السعودية الطموحة والاقتصاد الوطني المتين الذي فتح أعين العالم على ما تزخر به المملكة من فرص وإمكانات.

لكن أجمل ما في المشهد – بحق – كان الشباب السعودي. على منصات العرض، رأينا وجوهًا مليئة بالحيوية والشغف، يتحدثون بثقة، ويشرحون التفاصيل الدقيقة في مجالاتهم بتمكن وفخر. شباب يرفع الرأس، ويمثل الجيل الجديد الذي نراهن عليه في مستقبل الطب والصحة في المملكة.

وفي نهاية اليوم، كانت الصورة أبلغ من أي كلام: كثير من العارضين الأجانب غادروا أجنحتهم مبكرًا، بينما بقي الشباب السعودي حتى آخر لحظة، ملتزمين، متحمسين، مستمتعين بتمثيل وطنهم. مشهد يلخص روح الجدية والانتماء والإصرار التي تميز هذا الجيل (من يقول الشباب السعودي ما يشتغل!!)

ولأن كل نجاح لا يكتمل إلا بالتواضع، نختم بعبارتين خلدتا هذه المعادلة الإنسانية:

«كلما تعمقتُ في العلم، شعرتُ بصغر حجمي أمام الكون».

وفي وصف المتكبر بدقة متناهية: «المتكبر يرى نفسه عملاقًا لأنه أعمى عن عيوبه، والمتواضع يرى عيوبه فينمو».

نقلا عن الوطن السعودية

تم نسخ الرابط