الأربعاء 12 نوفمبر 2025
رئيس مجلس الأدارة
خالد جودة
رئيس التحرير
هند أبو ضيف
هير نيوز هير نيوز
رئيس مجلس الأدارة
خالد جودة
رئيس التحرير
هند أبو ضيف

بقلم أصيل الجعيد: النفس المستحيلة

هير نيوز

النفس البشرية مدينة معتمة تتجاور فيها الأزقة الضيقة مع القصور المخفية، وكل باب مغلق فيها يقف خلفه صوت لا يريد أن يُسمع. نحن نظهر للناس شارعاً واحداً مضيئاً من هذه المدينة، نكنس أمامه كل صباح، نعلّق عليه أسماءنا وشهاداتنا وابتساماتنا المهذبة، ونترك في الأزقة الأخرى روائح الخوف والندم والرغبات المؤجلة تتعفن ببطء، كأننا لا نعرف أنها في النهاية ستسري مع هواء الليل إلى الواجهة.

في أعماق النفس شعور دائم بأن الإنسان مخلوق غير مكتمل، كائن يسير وفي داخله فراغ، يحاول ملأه بأي شيء: دين، حب، سلطة، مال، بطولة أخلاقية، أو حتى سقوط متعمد. الغريب أن هذا الفراغ نفسه هو الذي يمنحه القدرة على الاختيار، وهو الذي يعذّبه. لو كان ممتلئاً تماماً لما احتاج إلى الكذب على نفسه. ومع ذلك يمضي معظم حياته وهو يمارس حرفة دقيقة اسمها تبرير الضعف، يخيط الكلمات مثل رقع على ثوب مثقوب، يجمّل الخيانة باسم الظروف، والجبن باسم الحكمة، والأنانية باسم الحق الطبيعي، ثم يعود ليلاً إلى غرفته، فيسكت الجميع، ويبقى أمامه سؤال واحد لا يمكن خداعه: من أنت حقاً عندما لا يراك أحد؟

النفس لا تُبنى دفعة واحدة، بل تتشكّل من صفقات صغيرة نبرمها مع أنفسنا في اللحظات الحرجة. مرة نتنازل عن قناعة، ومرة نغض الطرف عن ظلم بسيط، ومرة نضحك مع جماعة على من نعرف أنه أضعف. كل خطوة تبدو لا تُذكر، لكنها تترك حجراً في مكان ما داخل القلب؛ وحين نلتفت بعد سنوات نجد أننا نعيش في بيت شيّدناه بأيدينا من الأحجار التي رُميت على الآخرين. عندها يولد ذلك الإحساس الغامض بالاختناق، شعور بأن الحياة ضاقت دون سبب ظاهر، وأن شيئاً في الروح صار ثقيلاً. لا تحتاج النفس إلى من يعظها؛ هي تحفظ قائمة خسائرها بدقة أكبر من أي قاضٍ، وتعرف متى خان الإنسان نفسه حتى لو أقنع العالم كله ببراءته.

ومع ذلك، لا يمكن اختزال النفس إلى الشر أو الجبن وحده. في المكان نفسه الذي تختبئ فيه الرغبة بالانتقام، تنام القدرة على التضحية. الإنسان، في اللحظة ذاتها، قادر على أن يسرق وأن يعطي، أن يدوس وأن يحمل، أن ينطق بالحق وأن يصمت خوفاً. هذا التناقض ليس خللاً، بل هو مسرح الحرية. من دون هذا التوتر بين القمة والقاع يصبح كل شيء ميكانيكياً. إن عظمة الإنسان ليست في أنه خير بطبعه، بل في أنه يعرف طريق الشر ويستيقظ كل يوم ليعيد التفاوض مع نفسه حتى لا يسقط بالكامل. هناك لذّة مظلمة في الاقتراب من الحافة، ولذّة أعمق في التراجع عنها في اللحظة الأخيرة، كأن الروح تريد أن تتأكد من وجودها عبر مقاومة نفسها.

أشد ما يخيف في النفس ليست الظلمة، بل قدرتها على التعود. يمكن للإنسان أن يعتاد الكذب حتى يغدو قوله الصادق هو الاستثناء الذي يربكه.

يمكن أن يتصالح مع قسوته لدرجة يرى فيها دموع الآخرين مسرحية مكررة. هذه القابلية للتكيف هي سلاح مزدوج: بها يتحمل الإنسان الألم، وبها أيضاً يتعايش مع قسوته هو. لذا فإن السؤال الحاسم ليس: ماذا فعلت مرة واحدة؟ بل: مع ماذا قررت أن تتصالح داخلك حتى صار يبدو طبيعياً؟ من هذه المصالحة يولد الوحش بصمت، يشاركنا المائدة، يلبس ثيابنا الرسمية، ويُصفّق له الناس أحياناً.

لكن في عمق هذه المدينة المظلمة يوجد مكان صغير يكاد لا يُرى، غرفة ضيقة لا نصلها إلا في لحظات الانهيار أو الصمت الطويل، هناك حيث تسقط كل الألقاب، ويجلس الإنسان أمام نفسه كما هو: طفل خائف يريد أن يُحَب دون شروط، مذنب يطلب أن يُفهم قبل أن يُدان، وروح تتوق إلى معنى يجعل كل هذا العبث أقل قسوة. في تلك الغرفة لا تنفع الأقنعة، وهناك فقط يمكن أن يبدأ شيء يشبه الخلاص. ليس خلاصاً دينياً أو فلسفياً جاهزاً، بل خطوة صغيرة: اعتراف صادق، اعتذار حقيقي، قرار ألا نخون تلك الحجرة مرة أخرى ونحن نخرج للشارع المزخرف.

النفس البشرية، في النهاية، ليست قصة نقيّة ولا سيرة داكنة. هي ساحة معركة لا تنتهي بين صورة نعرضها للعالم وصوت خافت في الداخل يرفض التصديق. وكل إنسان يعيش حياته على قدر المسافة بينهما. من ضاقت عنده هذه المسافة عاش أقل تمزقاً، ومن اتسعت حتى صار لا يعرف وجهه، يظل يركض من ضحكة عالية إلى عمل مرهق إلى علاقات سريعة، فقط ليغطي على تلك الحقيقة البسيطة: أن أكبر عذاب للإنسان أن يجلس وحيداً مع نفسه ولا يجد فيها رفيقاً يحترمه.

وهكذا لا تكون الحكمة في أن نصل إلى نفس نقية معصومة، فهذا وهم، بل في ألا نسمح لظلامنا أن يصبح عادياً، وألا نترك الطفل المختبئ في أعمق غرفة يموت من الصمت. أن نجرؤ من حين لآخر على فتح الأبواب المغلقة في تلك المدينة الداخلية، مهما خرج منها من روائح وخيبات، لأن الإنسان الذي لا يواجه نفسه يبقى غريباً حتى لو عرفه العالم كله، أما من تجرأ على رؤية قباحته وضعفه، فهو الوحيد الذي يملك فرصة حقيقية لأن يصبح إنساناً.

نقلا عن الوطن السعودية

تم نسخ الرابط