أمين مكتب الإفتاء بسلطنة عُمان: تعاون ديني وإفتائي متنامى مع مصر
أكد الشيخ أحمد بن سعود السيابي، أمين عام مكتب الإفتاء بسلطنة عمان أن العلاقات المصرية العُمانية في المجال الديني والإفتائي تشهد تعاونًا متناميًا يقوم على الاحترام المتبادل وتبادل الخبرات، في إطار الحرص المشترك على ترسيخ منهج الوسطية ومواجهة الفكر المتطرف.
وقال السيابي - في حوار مع وكالة أنباء الشرق الأوسط على هامش مشاركته في ندوة "الفتوى وقضايا الواقع الإنساني: نحو اجتهاد رشيد يواكب التحديات المعاصرة" - إن التعاون المصري العماني يتجلى من خلال التواصل المستمر بين المؤسسات الدينية الرسمية في البلدين، وفي مقدمتها دار الإفتاء المصرية ومكتب الإفتاء بسلطنة عُمان، عبر تبادل الزيارات، والمشاركة في المؤتمرات والندوات العلمية، والتنسيق في القضايا ذات الاهتمام المشترك.
وأضاف أن هذا التعاون يهدف إلى تطوير آليات الإفتاء المعاصر، وتعزيز الاجتهاد الرشيد القادر على مواكبة التحديات المتسارعة، خاصة في ظل التحولات الرقمية وانتشار تطبيقات الذكاء الاصطناعي، بما يسهم في خدمة المجتمعات الإسلامية وصون استقرارها الفكري والديني.
ووصف السيابي التعاون القائم مع مصر بأنه "تاريخي ومتجذر"، لافتًا إلى أن مكتب الإفتاء العماني استلهم هيكله التنظيمي من دار الإفتاء المصرية، وأن التعاون العلمي والديني مع الأزهر الشريف مستمر منذ عقود.
وأشار إلى الدور الكبير الذي اضطلعت به الخبرات المصرية في بناء الدولة العمانية الحديثة، خاصة في قطاع التعليم، مؤكدًا أن المصريين تركوا بصمة إيجابية مشهودة في المجتمع العماني.
وردا على سؤال حول التحديات التي تواجه الفتوى في العالم المعاصر، قال السيابي إن هذه التحديات ليست طارئة أو استثنائية، لكنها تضاعفت في عصر العولمة والتواصل الرقمي المتسارع، مشددًا على أن أخطر هذه التحديات يتمثل في التحدي القيمي والأخلاقي، الذي ينعكس مباشرة على استقرار المجتمعات ومسارات التنمية.
وأضاف أن كل زمن له تحدياته الخاصة، وإن استقراء سير الأنبياء يثبت أن التحديات كانت حاضرة في كل عصر، لكنها تختلف في طبيعتها وحدتها، موضحًا أن ما يميز المرحلة الراهنة هو السرعة الهائلة في انتقال الأفكار والمعلومات، واتساع دوائر التأثير عبر وسائل الاتصال الحديثة.
وتابع أن العالم لم يعد "قرية صغيرة" كما كان يُقال، بل أصبح في متناول اليد عبر جهاز لوحي أو هاتف ذكي، وهو ما جعل التحديات أكثر كثافة وانتشارًا، وفي الوقت نفسه فرض على المؤسسات الدينية تطوير أدوات المواجهة، مؤكدًا أن "الله لم يخلق داءً إلا وخلق له دواء".
وأوضح أمين عام مكتب الإفتاء أن التحديات الراهنة تتركز بشكل رئيسي في مجال القيم والأخلاق، لافتًا إلى أن التفكك القيمي ينعكس على مظاهر خطيرة في المجتمعات، مثل انتشار المخدرات، والعنف الأسري، والجريمة، وهي ظواهر تمثل في جوهرها معوقات حقيقية للتنمية.
وقال إن المجتمعات التي ينتشر فيها تعاطي المخدرات والمؤثرات العقلية تعاني فشلًا تنمويًا على المستويات الاقتصادية والسياسية وحتى الأمنية، معتبرًا أن «تحطيم الإنسان هو الطريق الأسرع لتحطيم المجتمعات».
وأشار إلى أن مكتب الإفتاء بسلطنة عمان يولي اهتمامًا خاصًا بترسيخ القيم، من خلال برامج توعوية تستهدف النشء والشباب، من بينها برنامج "هوية وحضارة"، الذي يركز على تعزيز القيم العمانية المستمدة من الإسلام، بالتوازي مع دور الإعلام العماني في هذا المجال.
وحول انتشار الفتاوى غير المنضبطة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أكد السيابي أن تعدد المنصات وتنوع منافذ النشر جعلا من الصعب التحكم الكامل في هذه الظاهرة، مشيرًا إلى أن كثيرًا مما يُتداول لا يرقى إلى كونه "فتوى" بالمعنى العلمي، وإنما آراء أو أقوال تُقدَّم في ثوب ديني بدافع الشهرة أو "خالف تُعرف".
وشدد على أن الفتوى بغير علم محرّمة شرعًا، مستشهدًا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: «من أُفتي بغير علم كان كمن خرّ من السماء إلى الأرض فصادف بئرًا لا قعر لها»، موضحًا أن إصابة الحكم لا تُبرر الفتوى إذا لم تصدر عن علم وضوابط.
وبيّن أن الفتوى علم له أدواته، تبدأ بالقرآن والسنة والإجماع، ثم القياس والاجتهاد، إلى جانب علوم الآلة كالنحو واللغة والبلاغة، التي تمثل المفاتيح الضرورية لفهم النصوص الشرعية.
وأكد الشيخ السيابي أن الذكاء الاصطناعي لا يجوز أن يكون مصدرًا لإصدار الفتوى، مشددًا على أنه يمكن الاستفادة منه فقط كأداة مساعدة في البحث وجمع المعلومات، لا كبديل عن المفتي أو المرجعية العلمية.
وقال إن الفتوى لا تقوم على المعلومة وحدها، بل على القدوة والثقة في المفتي وسلوكه وعلمه واستقامته، موضحًا أن هذه العناصر لا يمكن أن توفرها الآلة، لأن الذكاء الاصطناعي في النهاية تجميع لخوارزميات وأقوال بشرية.
وأضاف أن الاعتماد الكامل على الذكاء الاصطناعي في الإفتاء يهدد بتجميد الفقه، في حين أن الشريعة قائمة على مراعاة الواقع وتغير الأحوال، مستشهدًا بقوله تعالى: «كل يوم هو في شأن».
وأشار إلى أن ضبط استخدام التقنية في المجال الديني يتطلب مسارين متوازيين: مسار تقني يحد من الفوضى، ومسار فكري يعزز الوعي والضبط العلمي، لافتًا إلى أهمية التجارب العربية الرائدة، وعلى رأسها التجربة المصرية.
وعن خصوصية التجربة العمانية، أكد السيابي أن الاعتدال والتسامح في سلطنة عمان ليسا وليدي اللحظة، بل نتاج تفاعل تاريخي بين الإنسان العماني والقرار السياسي، موضحًا أن الموقع الجغرافي لعمان دفع أبناءها إلى الاحتكاك المبكر بشعوب وثقافات متعددة في إفريقيا وآسيا، ما رسّخ ثقافة قبول الآخر.
وأشار إلى أن العمانيين تعايشوا تاريخيًا مع أتباع ديانات ومذاهب مختلفة، دون تسجيل مظلومية واحدة على أساس ديني أو مذهبي أو عرقي، مؤكدًا أن هذا الإرث الإنساني انعكس على الخطاب الديني الموحد، الذي يمثل صمام أمان ضد التعصب والطائفية.
وأوضح أن جميع المذاهب الإسلامية موجودة في عمان، ويصلي أتباعها في مساجد واحدة، في إطار من الاحترام المتبادل، وهو ما جعل التجربة العمانية محل اهتمام عالمي.
وأكد السيابي أن الاعتدال العماني انعكس على السياسة الخارجية، التي تقوم على الحياد الإيجابي والوساطة، مشيرًا إلى دور السلطنة في ملفات إقليمية ودولية معقدة، من بينها الوساطة بين الولايات المتحدة وإيران، وجهود الإفراج عن محتجزين في عدد من النزاعات.
وأوضح أن نجاح الوساطة العمانية يعود إلى ثلاثية مترابطة: العدل، والوسطية، والثقة، لافتًا إلى أن الوقوف على مسافة واحدة من الأطراف المتنازعة هو ما يمنح السلطنة مصداقيتها.
وحول الموقف العماني من القضية الفلسطينية.. أكد أمين عام مكتب الإفتاء أن سلطنة عمان، قيادة وشعبًا، تقف بثبات إلى جانب القضية الفلسطينية، مشيرًا إلى المواقف الواضحة للسلطان هيثم بن طارق، والتحركات الدبلوماسية العمانية في المحافل الدولية، فضلًا عن الدعم الشعبي الواسع لغزة.
وشدد على أن موقف عُمان ثابت وراسخ في دعم الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، لافتًا إلى أن السلطنة تتحرك في هذا الإطار انطلاقًا من مبادئها القائمة على نصرة المظلوم، واحترام القانون الدولي، ودعم كل ما من شأنه تحقيق الأمن والاستقرار العادل في المنطقة.
ووجّه الشيخ أحمد بن سعود السيابي رسالة إلى الشباب العربي والإسلامي، دعاهم فيها إلى التمسك بالوعي والمعرفة، وعدم الانسياق وراء الشائعات أو الخطاب المتطرف الذي يستغل القضايا العادلة لتحقيق أهداف هدامة.. مؤكدا أن نصرة القضايا الكبرى، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، تبدأ ببناء الإنسان الواعي القادر على التمييز، والعمل الجاد، والإسهام الإيجابي في مجتمعه.
وشدد على أن الشباب هم ركيزة الحاضر وصنّاع المستقبل، وأن مسؤوليتهم الأخلاقية والوطنية تفرض عليهم الدفاع عن الحق بالعلم والحكمة والسلوك الرشيد