بقلم فاطمة المتحمي: الكتابة بين الهروب والواقع

بقلم فاطمة المتحمي: الكتابة بين الهروب والواقع.. الكتابة واحدة من أبرز أشكال التعبير البشري تأثيرًا، حيث تُستخدم كوسيلة للتفاعل مع العالم الخارجي أو للهروب منه. وقد طرحت سؤالًا مهمًا ذات يوم على الدكتور عبدالله الغذامي، كان نصه «هل تعد الأفكار والكتابة وسيلة للهروب من واقعٍ مرهق، أم هي طريقة للتفاعل مع الواقع بشكل أعمق وأكثر وعيًا؟».
بقلم فاطمة المتحمي: الكتابة بين الهروب والواقع.. وكان جوابه، «الأفكار قراءة للوجود وتتضمن التعالي عليه من أجل الانفصال عنه كما ننفصل عن صفحة في كتاب، لكنه ليس انفصالًا سلبيًا، بل هو مزيد من الانتماء، كما نبتعد عن الجبل كي نراه من بعيد فتزداد قيمته عندنا».
من هنا، جاءت كتابة هذا المقال لتسليط الضوء على تجارب بعض الكتاب الذين تناولوا في أعمالهم العلاقة المعقدة بين الخيال والواقع.
الكتابة كوسيلة للهروب من الواقع
بقلم فاطمة المتحمي: الكتابة بين الهروب والواقع.. يرتبط الهروب من الواقع بالكتابة في عديد من الحالات، حيث يرى بعض الكتاب في الأدب وسيلة للتحرر من قيود الحياة اليومية والضغوط النفسية. كما يعتقد البعض أن الخيال والكتابة يمكن أن يشكلا ملاذًا نفسيًا من متاعب الواقع.
1. سيغموند فرويد
يعد فرويد من المفكرين البارزين الذين تحدثوا عن فكرة الهروب عبر العقل الباطن. في دراساته النفسية، أوضح كيف يلجأ الناس إلى الأحلام والخيال كطريقة لتحقيق توازن نفسي، خصوصا عندما يجدون صعوبة في مواجهة الواقع بشكل مباشر. كان يعتقد أن الكتابة، مثلها مثل أنواع الفن الأخرى، هي وسيلة للتعبير عن الرغبات المكبوتة والضغوط النفسية. ومن وجهة نظره، يُستخدم الخيال كطريقة دفاعية للتعامل مع ضغوط الحياة، مما يدفع الأفراد إلى خلق عوالم خيالية أو التعبير عن رغباتهم التي لا يستطيعون الإفصاح عنها في الواقع.
2. فرانس كافكا
يُعد كافكا مثالاً آخر على الكتاب الذين استخدموا الكتابة للهروب من واقعهم. في رواياته مثل «المحاكمة» و«القلعة»، يعرض كافكا عالماً مليئاً بالضياع والاغتراب، حيث يصبح الواقع غير قابل للفهم أو التحمل. كانت كتاباته تركز على شخصيات غارقة في غربتها، تتعامل مع تقاليد اجتماعية معقدة وأنظمة بيروقراطية ثقيلة تشكل ضغطًا نفسيًا كبيرًا. في هذه الأعمال، يسعى الشخصيات للهروب من واقعهم القاسي بالبحث عن ملجأ في عوالم خيالية، لكنهم يكتشفون بسرعة أن هذا الملجأ ليس سوى وهم، سراب لا يمكن الوصول إليه.
3. جورج أورويل
في روايته «1984»، قدم جورج أورويل رؤية مستقبلية مظلمة، حيث يسود نظام سلطوي قمعي يعزل الأفراد عن حقوقهم وحرياتهم الأساسية. لكن، بعيدًا عن كونها مجرد تحذير اجتماعي من أخطار الأنظمة الاستبدادية، يمكن أيضًا اعتبار الرواية نوعًا من الهروب الفكري من واقع كان أورويل يشعر أنه لا يحمل الأمل. في ذلك الوقت، كان الواقع السياسي والاجتماعي الذي يعيشه أورويل يعكس كثيرًا من الظلم والتقييد للحرية، فاختار تصوير مستقبل أسوأ ليفرّ من هذا الواقع القاتم.
استخدم أورويل الخيال لخلق سيناريوهات مرعبة، حيث يُسيطر النظام على كل جوانب الحياة، ويُمحى الفرد في داخل آلة ضخمة تُدار بمنتهى القسوة. هذا الهروب الفكري عن الواقع لم يكن فقط وسيلة للتعبير عن مخاوفه، بل كان أيضًا دعوة للتفكير في كيف يمكن أن يصبح المستقبل أسوأ إذا استمر البشر في تجاهل حقوقهم وحرياتهم. بشكل غير مباشر، استخدم أورويل الرواية كأداة للتفكير في واقع كان يسعى للهروب منه، عبر تصور أسوأ السيناريوهات الممكنة التي قد تحدث إذا سُمح للأنظمة السلطوية بأن تسيطر بالكامل.
4. أجاثا كريستي
بقلم فاطمة المتحمي: الكتابة بين الهروب والواقع.. تُعدّ أجاثا كريستي واحدة من أعظم كتّاب الروايات البوليسية في العالم، وقد استخدمت الكتابة كوسيلة للهروب من الواقع بطريقة مبتكرة. رغم أن رواياتها تحفل بالغموض والتشويق، فإن كثيرًا منها يعكس اهتمامها بحل الألغاز النفسية والاجتماعية التي تحدد مصائر الشخصيات. في روايات مثل جريمة على متن القطار السريع وموت فوق النيل، تستعرض كريستي قضايا معقدة وتتناول العلاقات بين الشخصيات في أجواء مليئة بالضغط الاجتماعي والنفسي. يمكن القول إنّ مغامرات محققها الشهير، هرقل بوارو، كانت وسيلة للهروب من الواقع المألوف والتوجه إلى عوالم مشحونة بالأسئلة الأخلاقية والفكرية.
الكتابة كوسيلة للتفاعل مع الواقع
بقلم فاطمة المتحمي: الكتابة بين الهروب والواقع.. على النقيض من ذلك، يوجد عدد كبير من الكتاب الذين يرون في الكتابة وسيلة لفهم الواقع ومواجهته بشكل أعمق. هؤلاء الكتاب ينغمسون في التفاعلات البشرية، ويتناولون قضايا اجتماعية وسياسية تؤثر في العالم.
1. تشارلز ديكنز
يعد ديكنز واحدًا من أشهر الكتاب الذين استخدموا الأدب للتفاعل مع قضايا الواقع. في أعماله مثل «توقعات العظمة» و«تاريخ نيكولاس نيكلبي»، أظهر مشكلات الفقر والظلم الاجتماعي في إنجلترا في القرن التاسع عشر. من خلال شخصياته المثيرة وحبكاته المعقدة، كان يعبر عن دعوات للتغيير الاجتماعي. لم يكن ديكنز يهرب من الواقع، بل كان يسعى لتصحيحه والتأثير عليه من خلال كتاباته.
2. توماس هاردي
هاردي كانت تركز كتاباته على تأثير الحياة الريفية والتقاليد الاجتماعية على صراع الأفراد. في أعماله مثل تحت الشجرة الخضراء والعلاجات البائسة، عكس هاردي الواقع الاجتماعي والتاريخي لبريطانيا في تلك الحقبة. من خلال رواياته، قدّم تصويرًا لحياة معقدة لا يمكن الهروب منها، بل يجب مواجهتها وفهمها. كانت كتاباته تركز على صراع الأفراد مع قوى البيئة والمجتمع والخداع والابتزاز، والزواج المتعدد، والقتل، والاغتصاب. مع تسليط الضوء على التحديات التي يواجهها الناس في محاولاتهم للعيش في ظل التقاليد والقيم الاجتماعية المهيمنة.
3. جون شتاينبك
يُعد جون شتاينبك من الكتاب الذين تناولوا قضايا الطبقات الاجتماعية والفقر في أعماله الأدبية بشكل جلي. في رواياته مثل عناقيد الغضب وفئران ورجال، عكس شتاينبك معاناة الطبقات العاملة في الولايات المتحدة خلال فترة الكساد الكبير. من خلال شخصياته البسيطة، يقدم شتاينبك صورة عن الواقع الاجتماعي القاسي، ويعكس التحديات التي يواجهها الأفراد في سياقات اقتصادية صعبة، مما يجعل رواياته وسيلة لفهم الواقع العميق والمظلم في بعض الأحيان، بدلاً من الهروب منه.
4. فيودور دوستويفسكي
يُعد فيودور دوستويفسكي من أعظم الكتاب الروس والعالميين الذين استخدموا الكتابة للتفاعل مع الواقع، لا سيما في ما يتعلق بالصراع النفسي والاجتماعي. في رواياته مثل الأخوة كارامازوف والشياطين والجريمة والعقاب، تناول دوستويفسكي أسئلة عميقة حول الطبيعة البشرية، والوجود، والعدالة، مما يعكس واقع روسيا في القرن التاسع عشر من خلال شخصيات تعيش صراعات أخلاقية ونفسية. في أعماله، كان يسلط الضوء على التوترات بين القيم الاجتماعية والدينية والفردية، معبرًا عن الألم الداخلي والتجارب الشخصية التي يمر بها الأفراد في مواجهة المجتمع.
الكتابة بين الخيال والواقع: تجربة المثقفين السعوديين
في السياق السعودي، تتسم الكتابة في كثير من الأحيان بتوازن بين التفاعل مع الواقع الاجتماعي المحلي والهروب إلى عوالم خيالية، حيث يعبّر المثقفون السعوديون عن تجارب مجتمعية وثقافية فريدة.
1. عبدالله الغذامي
الدكتور الغذامي من أكثر المثقفين السعوديين تأثيرًا وجرأة. لم يستخدم الغذامي قلمه ليصف الواقع فحسب، بل ليفهمه ويحلله بعمق. عبر كتبه المهمة مثل «المرأة واللغة» و«الخطيئة والتكفير»، اقتحم قضايا معقدة مثل الثقافة والهوية ومكانة المرأة في المجتمع. ولم يتوقف مشروعه النقدي عند حدود الأدب أو اللغة، بل اتسع ليشمل قضايا الحداثة وما بعدها، كما في كتابه «حكاية الحداثة»، حيث رصد التحولات الاجتماعية والثقافية التي طرأت على المجتمع السعودي. وفي مؤلفه «ثقافة الوهم»، انتقد الغذامي الصورة الإعلامية والاجتماعية التي تصنع نماذج ثقافية وهمية تبتعد عن الواقع. وما يميز الغذامي حقًا هو قدرته على تجاوز الظاهر ليغوص في الأعماق النفسية والاجتماعية للمجتمع السعودي، مما يجعله من الكتاب الذين يسهمون في تشكيل الواقع أكثر من الهروب منه.
2. غازي القصيبي
غازي القصيبي من ألمع الأسماء في الأدب السعودي، إذ استطاع أن ينسج بين الواقع والخيال بخفة وحكمة. في رواياته الشهيرة مثل «شقة الحرية» و«العصفورية»، طرق القصيبي أبواب القضايا الاجتماعية والسياسية بجرأة، بينما حملت نصوصه لمسات فلسفية عميقة كشفت كيف يتأثر الفرد بالمجتمع من حوله. لم تكن كتاباته مجرد انعكاس للواقع فحسب، بل كانت أيضًا مساحة للتمرد الفكري، إذ تميز أسلوبه بلغة أدبية ثرية ومتمردة في آنٍ معًا. عُرف عن القصيبي قدرته على الغوص في أعماق النفس البشرية وتحليل الصراعات الداخلية التي يعيشها الأفراد في مواجهة الواقع، مما جعل أعماله لا تُقرأ فقط من باب الاستمتاع الأدبي، بل تُعد أيضًا مرآة تعكس التوترات الثقافية والسياسية في المجتمع السعودي. كان دائمًا يكتب بناءً على الواقع، بعيدًا عن الهروب إلى عوالم خيالية لا تمت للواقع بصلة، بل كان يواجه مشاعر القلق والضغط الاجتماعي بصدق وموضوعية.
3. حليمة مظفر
حليمة مظفر كاتبة سعودية، تُعد من الأسماء المهمة في الأدب السعودي المعاصر. تمكنت من ترك بصمة واضحة في الساحة الثقافية. في كتاباتها، تتناول مظفر قضايا اجتماعية ونفسية تسلط الضوء على التحديات التي يواجهها الفرد السعودي في المجتمع المعاصر. أسلوبها يعكس وعيًا اجتماعيًا عميقًا، ومحاولة لفهم التغيرات الثقافية التي تمر بها السعودية. تميزت مظفر بطرحها الإنساني وفهمها للقضايا من أكثر من زاوية، مما يتيح لها بناء صورة شاملة ومعقدة للمجتمع، وهذا ما يجعلها جزءًا من الحوار المستمر حول الهوية والمجتمع. كما تسلط الضوء على تجارب المرأة السعودية ودورها المتنامي في المجالات الثقافية والاجتماعية، مع تأكيدها على أهمية التعبير عن الذات والحرية الفكرية. تعكس أعمالها أيضًا التحولات التي يشهدها المجتمع السعودي في ظل رؤية 2030، وكيف يمكن للأدب أن يسهم في تشكيل المستقبل والتوعية بالقضايا المعاصرة.
4. عبده خال
خال أحد أبرز الكتاب السعوديين الذين لا يترددون في تناول قضايا المجتمع السعودي المعقدة من خلال أعماله الأدبية. في روايته «ترمي بشرر»، يتناول خال مسائل مثل التقاليد، القيم الاجتماعية، والصراعات الشخصية في بيئة محافظة، مما يجعله يقدم صورة حية ومتجذرة في الواقع السعودي. تركز الرواية على معاناة الشخصيات في مواجهة التحديات المجتمعية والتقاليد التي تحد من حريتهم. وعلى الرغم من أن خال يتعامل مع واقع معقد مليء بالتناقضات، فإنه لا يكتفي بوصفه، بل يقدم أيضًا نقدًا اجتماعيًا وثقافيًا حادًا يعكس تساؤلاته العميقة حول قضايا مثل العنف، الفقر، والظروف النفسية التي تهيمن على أفراد المجتمع. من خلال هذه الرواية، يفتح خال باب النقاش حول الموروثات الثقافية ودورها في تشكيل الفرد والجماعة، مؤكدًا ضرورة النظر إلى المستقبل بعين ناقدة بعيدًا عن الاصطفاف التقليدي.
ختامًا، الكتابة بين الهروب من الواقع وارتباطها بالواقع ليست مجرد مفهوم ثابت، بل هي مساحة مرنة يعبّر فيها الكُتاب عن أفكارهم ورؤاهم المتنوعة. سواء كان الكاتب يهرب إلى الخيال أو يتفاعل مع الواقع، تظل الكتابة أداة فكرية قوية تمكّن الأفراد من استكشاف العالم الداخلي والخارجي في آن واحد. ومن خلال التجارب التي ذُكرت في هذا المقال، نرى كيف يمكن للأدب أن يشكل أدوات فهم وتغيير، سواء كان ذلك من خلال الهروب أو المواجهة المباشرة للواقع.