بقلم ملحة عبدالله : الفـن والعقيـدة

بقلم ملحة عبدالله : الفـن والعقيـدة.. الإنسان حين يملك أن ينظر إلى المظاهر جميعها متصلة سوف يدرك أن ثمة تياراً خفياً يسيطر عليها جميعاً ويضفي عليها جمالاً متميزاً ويجعل الإنسان يخشى من هذه القوى الخفية ويحاول استرضاءها، ولذا أقام الشعائر والممارسات الدينية ليعبر عن حاجاته ودوافعه إزاء الآلهة لينشأ بذلك ما يسمى بالعقيدة..
بقلم ملحة عبدالله : الفـن والعقيـدة.. منذ أن وعي الإنسان بما حوله وبدأت أنامله تداعب الحجر لتشكل منه أدوات بدائية أو قطع فنية، ومنذ أن وقف في الماء ولامس أحياءه تسبح بين قدميه ودخل الكهوف واتخذها مساكن، كان هناك شيء خفي يشعر به بداخله ويعطيه القوة في مواجهة العالم المليء بالوحوش وأوجد الفكر الإنساني شكلاً راقياً من أشكال الفكر، بأن هناك قوى خفية تسيطر على هذا العالم تعمل دوماً على تحقيق التوازن، هذه القوة وإن كانت غير ظاهرة إلا أن أفعالها تدل عليها، فحاول دوماً التودد إليها خوفاً من بطشها فحاكاها في أفعالها، إذ إن تكوينات الصخور وهطول الأمطار عليها تشكل قطعاً فنية منحوتة، إذ تترك أشكالاً تبث الرهبة داخل نفس هذا الإنسان فرأى تماثيل نحتتها الطبيعة، ولأن الإنسان بطبيعته يحاكي ما يراه فصنع لآلهته أو هذه القوى الخفية أشكالاً ليتقرب إليها ويعبدها ويأنس بها في هذا العالم الموحش.
بقلم ملحة عبدالله : الفـن والعقيـدة.. إن الإنسان الذي عاش في ظروف المجتمع البدائي لم يكن يفهم إلا الصلات القريبة منه كعلاقات القربى. كان التفسير بواسطة علاقات القربي أكثر تفسيرات الطبيعة إقناعاً له، فالسماء والهواء والأرض والبحر والعالم السفلي، أي الطبيعة برمتها كل ذلك لم يكن يبدو له أكثر من مشاعة قبلية ضخمة واحدة.
بقلم ملحة عبدالله : الفـن والعقيـدة.. وهذه الطبيعة من حوله هي ما حرك الإنسان لمحاولة مسايرة الأوضاع من حوله فنشأ داخله اعتقاد سحري بقدرته على التغلب والانتصار. وما نراه من صور الحيوان في العصر الجليدي على الجدران وعلى أسقف الكهوف ولا سيما قدامى السكان في إسبانيا وجنوب فرنسا، إذ صوروا في كهوفهم صوراً للوعل والجاموس البري والخيول، وأغلب الظن أنهم لم يفعلوا ذلك للمتعة والجمال، فلقد كانت الكهوف من الظلمة بحيث لا تتيح الرؤيا وبالتالي لا تصلح أن تتخذ سكناً، ولكن أغلب الظن أنهم رسموا هذه الصور اعتقاداً منهم بأنها ستقع بين أيديهم إذا رسموها وهذا هو البعد السحري، "لا تزال بعض القبائل البدائية في أفريقيا تربط بين الصورة والحقيقة، فنراهم يحزنون إذا ما مر بهم سائح والتقط صوراً لهم ولماشيتهم، فهم يعتقدون أن ذهابه بصور الماشية سيجعلهم يفتقدونها فسترحل عنهم مثلما رحلت الصورة".
بقلم ملحة عبدالله: الفـن والعقيـدة.. ومازالت هذه المعتقدات الموجودة في بعض القبائل التي تسمي أبناءها بأسماء الحيوان بل وفي رقصاتها ترتدي جلود الحيوانات، فرغم أن الإنسان الأول توصل إلى آلية الفكر إلا أنه لم يستطع أن ينسحب من الحقائق المحسوسة ليحولها إلى أشياء ملموسة تستطيع تجسيدها، فلقد أدرك في الفكر البدائي العلاقة بين السبب والنتيجة ولكنه لا يدرك ما يراه من سببية تعمل كالقانون آلياً وبدون أي هوى شخصي، فإن الإنسان المبكر ينظر إلى الوقائع كحوادث فردية، ولم يدرك هذه الحوادث أو يفسرها إلا كحركة، فلا يضعها بالضرورة إلا في قالب قصة، وبعبارة أخرى كان الأقدمون يقصون الأساطير عوضاً عن القيام بالتحليل والاستنتاج.
ومن هنا نشأت الأساطير التي كانت مجرد محاولة من هذا الإنسان البدائي لتفسير بعض الظواهر التي بدت غامضة على فهمه، وفي الوقت نفسه تشعره بنوع من الأمان من الغموض المحيط به، فالإحساس بالقصور إزاء المعنويات التي بدت غامضة هو الذي حرك العقل لاستجلابها، فإذا هو بذلك يضع الأساس الأول لنشأة الفنون والعلوم، فحملت أساطيره بعضاً من الصفات الخارقة للقوى الغيبية التي تطور الفكر اتجاهها ووضعها في مصاف الآلهة، فنشأ ما يسمى بتعدد الآلهة في الفكر اليوناني القديم وأيضاً في الشرق الأدنى والأوسط.
وارتبطت هذه الأنشطة اليومية بالفن، ففنون الغناء والرقص قد تطورت من الأعمال الجماعية ومن الطقوس الدينية.
هذا الإحساس الديني هو ما جعلهم يعيشون في جماعات وفق منطق نفعي، الغرض منه الإحساس بالدفء والأمان، فالإنسان البدائي حين يحاول تفسير الظواهر الطبيعية يغدق على الجماد صفات إنسانية لأنه لا يعرف عالماً جامداً أبداً، فالعالم لا يبدو للإنسان البدائي جماداً أو فارغاً بل زاخراً بالحياة حتى وإن كان جماداً أو تمثالاً، فهو يحمل بداخله حياة محسوسة أو ما يسمى بقوة التأثير أو بالبعد السحري للفنون، ولذا نجحت مدرسة الواقعية السحرية في الفن، لأن "الأشياء يصبح لها لا بذاتها ولكن بوصفها قوى، إمكانات خفية تستطيع أن تؤثر على الإنسان، لذلك لا تكتسب الأشياء تحديداتها الخاصة وتتحول إلى فتشات، أي تصبح الأشياء حوامل لقوى سحرية".
فالوظيفة الأولية للفنون السحرية كافة هي إذكاء عواطف معينة في المرء أو في الأشخاص والتي تعد ضرورية ونافعة في سياق العمل المعيشي، فالنشاط السحري نوع من المحرك الذي يزود ميكانيكية الحياة العملية بتيار عاطفي ليسيرها، لذلك فالسحر الفني ضرورة في أي مجتمع صحي.
فالإنسان حين يملك أن ينظر إلى المظاهر جميعها متصلة سوف يدرك أن ثمة تياراً خفياً يسيطر عليها جميعاً ويضفي عليها جمالاً متميزاً ويجعل الإنسان يخشى من هذه القوى الخفية ويحاول استرضاءها، ولذا أقام الشعائر والممارسات الدينية ليعبر عن حاجاته ودوافعه إزاء الآلهة لينشأ بذلك ما يسمى بالعقيدة، إذ كان الإنسان يعبر عن تقديسه لتلك الآلهة بما تهديه إليه الفطرة من وسائل التعبير التي يحيي بها الطقوس العبودية في دفء جماعي لدى الشعوب البدائية وفي القبائل الأفريقية، كما نجده أيضاً في بدايات الدراما اليونانية فيما يسمى مرحلة الاستعراضات الدثرامبية التي تتم بشكل جماعي بغرض التأثير على جمهور المشاهدين بما تثيره هذه الاستعراضات من انفعالات داخل نفسية المتلقي، إذ ينتقل الانفعال الشديد ذاتياً، بواسطة نوع من العدوى النفسية من أحد أفراد القطيع إلى الآخر، حيث يحتاج الأمر إلى لغة مشتركة تصبح هذه النوبات الانفعالية وسيلة لتوحيد المجموع، وبالطريقة نفسها تتوحد الجماهير، ويصل جمهور المشاهدين إلى حالة من حالات الوجد، متناسين الهموم الحياتية في شكل أقرب للعبادة، ومثلما يعتقد الرجل البدائي أنه يستطيع أن يضمن وقوع الحدث الفعلي عن طريق التمثيل الرمزي لهذا الحدث إيماناً منه بما يسمى البعد السحري، فهو حينما يمثل في رقصة الصيد أنه يقتل حيواناً فإنه يعتقد اعتقاداً راسخاً أنه سوف يفلح في صيده، لذا كان يحاكي الأشياء من حوله حتى تبدو طبيعية ويحدث التأثير في الراقصين الصيادين يحدث التأثير أيضاً في جمهور المشاهدين أو ما يسمى بنظرية التفاعل (1- تفاعل الوجدان، 2- تفاعل العاطفة، 3- تفاعل النشاط).
أي أن هذا التفاعل يأتي من داخل الفرد نفسه وبفطرية وتلقائية ناتجة عن إحساسه الدائم بالعقيدة، ولقد بنيت الثقافة الشرقية على الغريزة، إذ أصبح يحس أنه أمام قدر مقدر عليه، ومن ثم يتواضع في صمت ودون أدنى رغبة منه أمام سر الوجود الأعظم الذي لا سبيل إلى اختراقه، ولقد يظهر خوفه فإذا هو عبادة وأصبح استسلامه دينياً.