بقلم عبدالله المليباري: التجربة التي لا ينساها المريض

بقلم عبدالله المليباري: التجربة التي لا ينساها المريض.. الشهر الماضي مرت زوجتي بتجربة مريرة، تستحق التوقف عندها، خلال زيارتها لأحد المراكز الصحية الخاصة في جدة، لاستشارة أحد الأطباء البارزين في مجاله. دخلت للمركز الطبي وهي تحمل الكثير من القلق والتساؤلات كأم تخشى على صحة ابنتها، لكنها خرجت منها أكثر ارتباكًا، مثقلة بمشاعر الحزن والغضب والانكسار النفسي. لم يكن السبب ما سمعته من الطبيب بل التجربة بكاملها، من تعامل موظفة الاستقبال البارد وغير المبالي، إلى أسلوب الطبيب نفسه الذي تعامل معها بفوقية واضحة، مستعرضًا معرفته باستخدام مصطلحات طبية معقدة، دون أي محاولة للتبسيط أو التوضيح، بل تجاوز ذلك إلى إلقاء اللوم عليها مباشرة أمام ابنتنا، ما زاد من إحساسها بالذنب والألم. كانت تتوقع من الزيارة أن تجد بعض الطمأنينة والوضوح، لكنها - للأسف - خرجت محملة بمشاعر سلبية وتجربة قاسية لن تنساها.
بقلم عبدالله المليباري: التجربة التي لا ينساها المريض.. في رأيي هذه التجربة ليست استثناءً، بل واحدة من تجارب كثيرة يعاني منها كثير من المرضى وعائلاتهم. تجربة المريض لا تقتصر على تلقي العلاج فقط، بل تشمل كل ما يمر به المريض من لحظة تخطيطه للذهاب إلى المركز الطبي وحتى مغادرته، بدءًا من سهولة وطريقة الوصول للمركز وحجز الموعد والاستقبال، مرورًا بأسلوب التواصل وانتهاءً بمدى شعوره بالاحترام والتقدير كإنسان.
بقلم عبدالله المليباري: التجربة التي لا ينساها المريض.. لم يكن مفهوم تجربة المريض حاضرًا دائمًا في أنظمة الرعاية الصحية كما نعرفه اليوم. ظهر الاهتمام المنهجي به في التسعينيات الميلادية مع تزايد التركيز العالمي على جودة الرعاية الصحية، خاصة بعد تقارير مهمة مثل تقرير To Err is Human الصادر عن معهد الطب الأمريكي. «تجربة المريض» علم وممارسة تتكامل فيها عدة محاور أساسية تضمن السهولة في الحصول والوصول للخدمة والتواصل الفعال والشراكة في القرار والدعم المستمر والمتابعة بعد تلقي الخدمة. اليوم هناك أقسام متخصصة في المنشآت الطبية تحمل اسم «إدارة تجربة المريض»، تعمل على تصميم رحلته بأدق تفاصيلها، وتستخدم أدوات لقياس جودة التجربة كاستطلاعات رضا المرضى، وتحليل الشكاوى وحتى مراقبة تعبيرات الوجه والانفعالات لتحسين كل نقطة تفاعل في رحلة المريض. في كثير من الدول بما فيها السعودية أصبحت تجربة المريض مرتبطة بشكل مباشر بتقييم أداء المنشآت الصحية وتصنيفها، وكذلك حصولها على الاعتمادات المرموقة.
بقلم عبدالله المليباري: التجربة التي لا ينساها المريض.. الاهتمام بتجربة المريض ليس ترفًا أو خيارًا ثانويًا، بل عنصر أساسي في تقديم رعاية صحية متكاملة. الدراسات أثبتت أن المرضى الذين يشعرون بأن آراءهم مسموعة والذين يتم إشراكهم في وضع خطة علاجهم، يكون التزامهم بخطط العلاج أفضل ونسب تعافيهم أعلى، بل إن تحسين تجربة المريض تسهم في تقليل الأخطاء الطبية المرتبطة غالبًا بسوء التواصل، والتي تشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى أن 70 % منها يعود أصلها إلى ضعف التواصل مع المرضى.
بقلم عبدالله المليباري: التجربة التي لا ينساها المريض.. ومن زاوية أخرى يحمل تحسين تجربة المريض أثرًا اقتصاديًا واضحًا، فقد أظهرت الدراسات أن المستشفيات التي تحقق معدلات رضا مرتفعة بين مرضاها، تنخفض لديها نسب إعادة التنويم خلال 30 يومًا بنسبة تصل إلى 40 %، ما يعني توفيرًا كبيرًا في التكاليف الصحية وتحسينًا في كفاءة النظام الصحي ككل. وحتى من منظور الربح والخسارة، تجربة سيئة كفيلة بأن تدفع المريض للبحث عن بدائل وعدم العودة.
لا يتعلق الأمر بمجرد أرقام أو مؤشرات، بل بجوهر إنساني عميق، المريض لا يبحث فقط عن دواء، بل عمن يسمعه، من يطمئنه، من يشعره أنه إنسان له كرامة، وليس مجرد حالة تدرج في ملف طبي. أكثر من 90% من المرضى وفق استطلاعات حديثة يفضلون البقاء في مستشفى يشعرون فيه بالتقدير والوضوح، حتى لو كانت جودة الخدمة الطبية متشابهة مع مكان آخر.
من أجل ذلك أعتقد أن علينا وكما ندفع اليوم للاستثمار في الرقمنة والذكاء الاصطناعي، يجب ألا نغفل عن الاستثمار في تدريب وتطوير الأطباء والممرضين ومن يتعامل مباشرة مع المرضى وعائلاتهم، على مهارات التواصل الإنساني، وتبسيط المعلومات الطبية للمرضى، وتهيئة بيئة المرافق الطبية لتكون أكثر راحة واحترامًا لكرامة الإنسان، ويجب أن نستخدم التقنية لتحسين التجربة الإنسانية لا لتحويلها إلى تجربة آلية خالية من المشاعر.
في النهاية علينا إدراك أن تجربة المريض ليست مجرد إضافة تجميلية للرعاية الصحية، بل هي قلبها الحقيقي. إنها ما يجعل من رحلة العلاج فرصة للشفاء الجسدي والنفسي معًا، وما يحول المؤسسات الصحية إلى أماكن للأمل والثقة، يشعر فيها المريض مهما كانت حالته بأنه «إنسان قبل كل شيء».