الأربعاء 26 نوفمبر 2025
رئيس مجلس الأدارة
خالد جودة
رئيس التحرير
هند أبو ضيف
هير نيوز هير نيوز
رئيس مجلس الأدارة
خالد جودة
رئيس التحرير
هند أبو ضيف

بقلم مريم النويمي: الطب النفسي بين الوصمة والحاجة

هير نيوز

رغم انتشار وتنامي الوعي الصحي في مجالات عديدة، ما زالت «الصحة النفسية» في كثير من مجتمعاتنا يحجبها ستار ثقيل من الوصمة والخوف. فالطب النفسي، على عكس باقي التخصصات، لا يُقاس بمهارته العلمية، بل يُحاكم اجتماعيا وأخلاقيا، إذ يبدو أن نظرة الناس إليه محكومة بفكرة عميقة مفادها أن (العقل لا يُمسّ)!

أي شكوى نفسية تُعدّ إشارة ضعف، أو نقصا في صلابة الشخصية، أو حتى خللا في العقل وهنا تبدأ المشكلة، نتقبل فكرة زيارة أخصائي العظام بلا تردد، ومراجعة أطباء القلب بكل طمأنينة، لكن زيارة الطبيب النفسي! هذه تتحول في المخيلة الشعبية إلى إعلان أزمة، أحد أهم الإشكالات أن المجتمع يتعامل مع الاضطراب النفسي كعلامة هوية لا كمرض.

المكتئب يصبح شخصا ضعيفا، القلِق إنسانا مزعجا، ومريض الوسواس مختلا. بهذه الأحكام تعيش الآلاف من الحالات بين الإنكار والعزلة، في البيوت العربية، ينمو الطفل وهو يتعلم أن البكاء ضعف، أن الفضفضة ثرثرة وأن في الإنكار سترٌ ونجاة، هذه المفاهيم المتوارثة خلقت جيلا يرى في الذهاب للطبيب النفسي نوعًا من الفضيحة، فالمريض يخاف من انكشاف أمره أكثر من خوفه من المرض نفسه، وفي حالات كثيرة، يُفضّل البعض تحمّل الألم على مواجهة المجتمع، فيتطوّر القلق إلى نوبات، ويتحوّل الحزن إلى اكتئاب مزمن، وقد يصل الأمر إلى إيذاء الذات، وكل هذا يحدث تحت مظلة (الستر) التي لم تنقذ أحدا، بل أخّرت العلاج وزادت المعاناة.

الطب النفسي يعاني من منافسة شرسة مع تفسيرات جاهزة وسريعة، كالعين، الحسد، المسّ، ضغوط عابرة أو (يحتاج راحة)، لا مشكلة في الاعتقاد الروحي نفسه، ولكن المشكلة تنشأ عندما يصبح هذا الاعتقاد بديلا وحيدا عن العلاج العلمي، فتُهمل الأسباب البيولوجية، وتُختزل معاناة الإنسان في تفسير واحد لا يقبل النقاش والنتيجة؟! أمراض كان يمكن علاجها في شهر تتحول إلى مشكلات تمتد لسنوات.

المرض النفسي ليس جنونا، رغم أنه تعبير كثير التداول بين الناس، لكن معناه الحقيقي علميا وفلسفيا واجتماعيا مختلف تمامًا عمّا يُتوقع، في الطب النفسي لا يوجد تشخيص اسمه الجنون، الكلمة ليست مصطلحا علميا، ولا تُستخدم في الكتب الطبية، هي وصف اجتماعي يطلقه الناس على أي سلوك لا يفهمونه أو لا يشبه المألوف، شخص يتصرف بطريقة غير متوقعة هو مجنون، أحدهم يمر بنوبة اكتئاب شديدة، حتى أولئك الأشخاص شديدي الذكاء الذين يفعلون أشياء لا يدركها الآخرون يسمونهم مجانين، الانفصام في الشخصية يراه البعض جنونا، إذن الكلمة مبهمة وغير دقيقة.

في العصور القديمة، كان الجنون مفهوما يجمع تحت مظلته كل شيء، من نوبات الصرع، إلى الهلوسة، الاكتئاب، إلى اضطرابات الشخصية، وحتى العبقرية الغريبة، وفي المجتمعات العربية، كان مصطلح (مجنون) يرتبط بتفسيرات روحية، كالمس والسحر، لكن العلم اليوم فصل هذه الحالات إلى اضطرابات محددة، لكل منها علاج مستقل، الربط الخاطئ بين المرض النفسي والجنون، رغم أن معظم الحالات ليست ذهانية، بل اضطرابات شائعة كالقلق والاكتئاب والوسواس، جعلت المصاب يتردد في مراجعة الطبيب النفسي فتتفاقم حالته.

ماذا لو نظرنا للطب النفسي كأي فرع آخر من الطب؟ المرض النفسي ليس ضعفا، بل حالة صحية لها أسباب:

• اضطراب كيمياء الدماغ.

• ضغوط اجتماعية ومهنية.

• صدمات الطفولة أو الأحداث القاسية.

• عوامل وراثية أو هرمونية.

كما أن العلاجات الحديثة – من الأدوية الدقيقة إلى العلاج السلوكي – مبنية على دراسات واسعة لا تختلف عن علاج الضغط والسكري، عندما يتقبل الإنسان أن الألم النفسي كالألم الجسدي، يبدأ طريقه الحقيقي نحو التعافي.

تغيير نظرة المجتمع للطب النفسي يتطلب ثلاثة مفاتيح:

الاعتراف بأن المرض النفسي حقيقة علمية لا تُنقص من قيمة أحد.

اعتبار زيارة الطبيب النفسي كمراجعة أي طبيب آخر.

إعادة تعريف القوة: القوة ليست في كبت الألم، بل في طلب المساعدة.

عندما نصل إلى مرحلة نقول فيها لشخص يعاني:

(اذهب للطبيب، هذا حقّك لا وصمتك)

حينها فقط سنقلب المعادلة، ونمنح المجتمع فرصة ليكون أكثر صحة، وأقل خوفا، وأكثر إنسانية.

نقلا عن الوطن السعودية

تم نسخ الرابط